تراشقات عباس ودحلان على السفود
في الوقت الذي شنت فيه الطائرات الإسرائيلة، عدوانها الغاشم على شعب قطاع غزة، الذي لا ذنب لرجال مقاومته الباسلة، سوى أنهم أرادوا أن يذكروا العالم الذي تآمر على وطنهم وعزتهم ولقمة عيشهم، بأن لهم كرامة دافعوا عنها وسيدافعون عنها ليس بأقل من دمائهم وأرواحهم..
بهذا الوقت الذي تعالت فيه صيحات النساء والأطفال فزعاً وهلعاً، طلعا علينا قطبان فلسطينيان ليس من أجل إدانة العدوان، ولا من أجل الحديث عن ضرورة المصالحة بين “فتح وحماس”، ولا من أجل مكاشفة الشعب الفلسطيني بالفشل الذريع الذي مُنيت به قضيته، من قبل قياداته المتناحرة على حصد مزيد من الإمتيازات التي عمّدوها بدماء الشهداء، وحسنوا شروطها على مذابح التنازلات المخزية والمعيبة..
بل طلعا من أجل مزيد من فتل العضلات السياسية التي شهد لها التاريخ بتحقيق اللكمات والضربات القاضية، التي أطاحت بالقضية الفلسطينية أرضاً حتى كادت تقصم ظهور مقاوميها وأبطالها الأشاوس الصناديد من “فتح وحماس”، ومن مختلف الفصائل التي ما زال كثير من عناصرها يُحكمون قبضتهم على جمر المقاومة والنضال..
هذه المرة ليس الخصم من فصيل تدعمه إيران، ولا من فصيل يدعمه “أردوغان”، ولا من فصيل يدعمه الشيطان.. فالخصمان فتحاويان حتى النخاع، فتحاويان رضعا حليب المقاومة منذ نعومة أظفارهما.. فتاريخ كل واحد منهما – وذلك حسب تصريحاتهما – يوهم المتلقي بأنه يحفل بأرشيف نضالي وبطولي يجعل، من أرشيف الراحل “مانديلا” مقارنة به أرشيفاً حافلاً بالتضحيات التي أشبه ما تكون بالمراهقة السياسية أو المراهقة الوطنية، وما “الثلاثون عاماً” التي قضاها في السجن سوى دعاية انتخابية لزيادة عدد مريديه وناخبيه..!
هذه المرة نستطيع أن نطلق على المواجهة التي حدثت بين “محمود عباس” و”محمد دحلان” المواجهة التخوينية. لقد جند “محمود عباس” رئيس السلطة الوطنية الفلسطينة كل قواه العقلية وشحذها باتجاه تجريد خصمه من وطنيته، والإلقاء به في جُبّ الخيانة والعمالة، ولو زاد عمر اجتماع عباس بالمجلس الثوري لحركة فتح ساعة أخرى، لما تورع في خطابه عن ضرورة المناداة بجلب خصمه دحلان مكبلاً، والعمل على تحنيطه بانتظار موسم الحج لرجمه بدلاً من الشيطان..!
إن الموقف اللافت في كلمة الرئيس الفلسطيني التي بثها التلفاز الرسمي مسجلة، هو المساحة الواسعة التي أفردها للحديث عن عدة شواهد تدل على خيانة خصمه، (المطرود) من حركة فتح ومن اللجنة المركزية “محمد دحلان”، الذي يعيش منفياً في دولة الإمارات العربية المتحدة.
مما يجعلنا نطرح السؤال الآتي: هل تحررت فلسطين كي يقوم رئيسها على مدار ساعة كاملة بتعرية “محمد دحلان”، الذي لعب دوراً كبيراً بتأخير تحريرها من قبضة العدو؟!!
إن الشعب الفلسطيني ليس بحاجة إلى كل هذه المهاترات التخوينية بين الرجلين، وليس بحاجة إلى شهادة أحد – أيّاً كان – للحديث عن الأطراف التي أوصلت القضية الفلسطينية، ومعها الشعب الفلسطيني إلى الدرك الأسفل من جحيم التآمر، والتخاذل، والخذلان..
إن الشعب الفلسطيني لديه واقع يتحدث كل ما فيه من سواد، وتشويه، وتشرذم عن عمق مأساته، وعن فداحة مصابه، وعن فصول أبطال ردته الوطنية، وعن نحيب “جغرافيته” التي تآكلت على أيدي من تفاوضوا باسمه زورا وبهتاناً..
لسنا هنا بصدد الدفاع لا عن “كرزاي فلسطين”، ولا عن “جيفارا القدس”، وإنما بصدد الحديث عن خيبة كبيرة حولها لصوص (صناديق الإستثمار) إلى خيمة لا تستظل بها إلا أعذراهم الواهية، وبطولاتهم الوهمية التي لا تصمد أمام عقل ولا منطق. فالشعوب العربية وعلى رأسها الشعب الفلسطيني ما عادت تنتظر فترة ذوبان الثلوج لرؤية مروج الحقائق المزيفة، فشموس الواقع أذابت جليد أكاذيب الساسة وتجار الأوطان..
فبدلاً من أن يلقي “محمود عباس” على الشعب الفلسطيني مواعظه الوطنية والقومية، من خلال حديثه عن مساهمته الأصيلة، بوضع الأرضية لاتفاق جنيف “الأول والثاني”، ومن خلال عدم تورعه وخجله من لقاء أقطاب المعارضة الداخلية والخارجية للأزمة السورية، حاثاً جميع الأطراف على ضرورة الحل السياسي والمصالحة الوطنية، التي بدونها سيظل الشعب السوري مصدراً لشلال الدم؛ لأنه هو الوحيد الذي يدفع ثمن التناحر والتنافر..
بدلاً من هذه المواعظ لماذا لا يلتفت عباس إلى غزة المحاصرة (عبرياً وعربياً)، ويلتفت إلى أطفالها الذين نهشهم البرد والجوع، لماذا لا يلتفت إلى معاناة أهلها وطلبتها على معابر القهر، وعلى بوابات الذل والإهانة ؟!
لماذا لا يلتفت عباس إلى البيت الفلسطيني، الذي مزقته الخلافات كل ممزق، وعصفت به رياح التكالب على المناصب والكراسي، لماذا لا يلتفت إلى ضرورة المصالحة الوطنية (الحقيقية)، التي باتت ماسة أكثر من أي وقت مضى، لماذا لا يلتفت إلى الأسرى الذين ضحوا بحريتهم لتظل فلسطين حرة أبية، لماذا لا يلتفت إلى أسر الشهداء الذين فارقوا الحياة وألسنتهم تلهج: “وللحرية الحمراء باب…. بكل يد مضرجة يُدقُّ” ؟!
لماذا لا يجترح عباس معجزة في إيقاف المستوطنات الإسرائيلية، التي تحولت إلى أورام سرطانية أكلت الأخضر واليابس، بدلاً من الحديث عن (معجزة السيسي) في انقلابه التاريخي المشؤوم، لماذا لا يلتفت عباس إلى معاناة أهله على الحواجز الإسرائيلية المزروعة في كل مكان لتقطيع أوصال فلسطين، لماذا لا يلتفت إلى معاناة شعبه في مخيمات النزوح واللجوء، التي تحولت إلى بؤر لتصفية الحسابات والأحقاد على حساب سكانها المطرودين من فردوسهم المفقود؟!
لماذا لا يلتفت عباس إلى المسجد الأقصى، الذي تتناوب على غزوه واقتحامه كل يوم قطعان المستوطنين المسعورة، لماذا لا يلتفت إلى الخطر الذي يحدق بكنائس القدس، حيث يهدد الصهاينة بابتلاعها وابتلاع جميع المقدسات؟!
إن الشعب الفلسطيني وصل إلى مرحلة لم يعد يصدق فيها أحداً، فهو لا يؤمن إلا بالندقية والحجر، فهو لا ينتظر مطلقاً ذلك الوقت الذي سيفضح فيه “دحلان” أكاذيب خطاب عباس، ولا ينتظر البتة وعود دحلان التي سيكشف من خلالها عن المتورطين بقضية اغتيال الزعيم الراحل “ياسر عرفات”..
إن الشعب الفلسطيني لا يعنيه كل ما سبق؛ لأنه يعرف كل شيء، فهو يعرف أن قضيته ما زالت بأيدي السماسرة، وهو يعرف أن الوطن أنكره (المفاوضون) عشرات المرات قبل صياح الديك وبعد صياح الديك.
فالشعب الفلسطيني ليس بحاجة إلى شهود ولا إلى أدلة كي يعرف أوصاف “يهوذا”، فكل ما يريده ويعنيه ويطلبه هو أن يمتلك “هؤلاء” شجاعة الرئيس اليمني الراحل، “القاضي عبدالرحمن الإرياني”، الذي قدم استقالته طواعيةً كأول زعيم عربي خشية أن تسفك لأجله الدماء..
إذا كان عباس حقيقة يحرص كل الحرص على عدم إنهاء حياته بخيانة، وعلى عدم السماح لأحد بالإساءة إلى حركة فتح أو تمزيقها أو اللعب فيها أو بيعها لأي بلد في العالم، فليقدم استقالته وليرحل عن الوطن المكلوم..
للمتابعة على الفيس بوك: الدكتور محمد السنجلاوي