تناقضات في المشهد السوري بين دمشق و قسد
كريستين حنا نصر
ما بين السابع والتاسع من مارس الماضي من عام 2025م وبعد أحداث الساحل السوري الدموية بحق المكون العلوي من مجازر دامية والتي كانت مأساوية، تعهدت الحكومة السورية بمحاسبة مرتكبي هذه الجرائم ، والتي تلاها أيضاً أحداث تفجير كنيسة مار الياس في دمشق ( منطقة الدويلعة ) وتحديداً بتاريخ العاشر من أغسطس من عام 2025م، حيث دخل انتحاري يتبع لتنظيم داعش وأطلق النار على المصلين ثم فجر نفسه بسترة ناسفة، الأمر الذي أسفر عنه مقتل عدد من المصلين والجرحى من المكون المسيحي، كما شهدت أيضاً محافظة السويداء إشتباكات دامية بين العشائر البدوية مع مجموعات مسلحة من الطائفة الدرزية ، كذلك خطف متبادل بين الطرفين ، الأمر الذي نتج عنه تهجير المكون البدوي من السويداء باتجاه ريف دمشق، ثم بعدها جاءت الدعوات الدورزية بضرورة إنشاء تحقيق دولي في مجلس الأمن وبرعاية دنماركية بخصوص عمليات القتل الطائفي في سوريا، وبشكل خاص ما يجري في السويداء ضد المكون الدورزي والمسيحي القاطنين هناك ، الى جانب ذلك جاءت دعوات من شيوخ طائفة الدروز بلجنة دولية ، حيث وصفت الأحداث بأنها تطهير عرقي ممنهج ، وبعدها تمّ انسحاب القوات الحكومية من محافظة السويداء.
وبعد سقوط نظام بشار الأسد البائد واستلام السلطة المؤقتة الانتقالية من قبل السيد أحمد الشرع، والتي أعقبها ازالة العقوبات من قبل ادارة ترامب، فقد كانت من ضمن الشروط الأساسية هي حماية الاقليات، ومشاركتهم في مؤسسات الدولة ، ولكن المشكلة الأساسية بدأت تتضح خصوصاً بعد أحداث السويداء وما رافقها من الانتهاكات التي ارتكبت بحق الاقليات في سوريا، وقد أُتهمت الحكومة المؤقتة بعدم قدرتها على النجاح في ضبط الميليشيات الخارجة عن القانون في الدولة، وفي وقت أخذ فيه العالم يراقب المشهد السوري عن كثب ، إلى جانب ما يمكن القول بأنه وجود نيّة لتمديد قانون قيصر ولمدة خمسة سنوات قادمة أي حتى العام 2029م ، وهذا القانون يفرض عقوبات على سوريا بهدف حماية المدنيين ، والسعي لمحاسبة المسؤولين عن جرائم حرب، وهذا التمديد يضع الإدارة السورية المؤقتة في موقف صعب ، كما أن هذا القانون الذي ينتظر حتى استكماله والموافقة عليه من قبل الخزانة الامريكية ، ليصبح جاهزاً للتصويت عليه في الكونجرس.
وتتزامن كل هذه الاحداث والمجريات والتطورات في الملف السوري المليء بالأحداث المتسارعة ، مع زيارة وزير خارجية تركيا ( حقان فيدان ) الى سوريا واللقاء مع السيد أحمد الشرع ، وهذه الزيارة كانت قبل يوم من إجراء اجتماع الحسكة والذي كان تحت عنوان ( وحدة الموقف لمكونات شمال شرق سوريا )، حيث عُقد في مدينة الحسكة بتنظيم من قوات سوريا الديمقراطية ، وبمشاركة واسعة من عشائر الجزيرة وبالاخص عشيرة شمر التي تمثل قوات الصناديد ضمن قوات سوريا الديمقراطية، كذلك الى جانب مشاركة عدد من رجال الدين من المسلمين السنة والمسيحيين وشيخ عقل طائفة الدروز حكمت الهجري من محافظة السويداء ، الى جانب رئيس المجلس الاسلامي العلوي الاعلى في سوريا ( غزال غزال ) ، كذلك مكونات أخرى من منطقة الجزيرة من سريان وأرمن وعرب وأكراد وأزيديين وغيرهم من مكونات المنطقة ، ويبدو أن هناك انقسام تركي مقابل مؤتمر باريس المدعوم من فرنسا وبريطانيا وأمريكا ، حيث يبدو أن أنقرة لا ترغب بأي تقارب بين الشام وشرق الفرات ، في وقت أعلنت فيه من جانبها الحكومة السورية المؤقتة عدم نيتها لقاء مجلس سوريا الديمقراطية في باريس خاصة بعد عقد اجتماع الحسكة، والذي اتهمته بأنه اجتماع أساسه طائفي وعرقي ويُعيد تصدير رموز نظام الأسد البائد، وبالرغم من ( أن مبادىء سوريا الديمقراطية كانت معارضة لنظام البعث السوري الحاكم ).
الواضح أن الأمور تغيرت خاصة بعد اجتماع الحسكة، فهل سيعرقل هذا الاجتماع الاتفاق المبرم بين مظلوم عبدي قائد قوات سوريا الديمقراطية وأحمد الشرع ؟، وبالمحصلة هل سينتج عنه تباعد في المواقف بين الطرفين ؟، وهل يمكن القول أنه انتهت أي فرصة للتفاهم بين دمشق وقسد ؟، وفي وقت جاء فيه اجتماع باريس بهدف التقارب بين الطرفين والسعي الى تطبيق الاتفاق المبرم بين قسد والشام .
إن منطقة شرق الفرات ومنذ تأسيس الادارة الذاتية لشمال وشرق سوريا ، نجد أن جميع المكونات المختلفة فيها يشاركون في تقرير مصير منطقتهم ، ويوجد تلبية لمطالب هذه المكونات ، هذه الادارة الذاتية نجحت في خلق نموذج من العيش المشترك ليجتمع الكل في عقد اجتماعي مشترك وفي ادارة مشتركة للمنطقة ، و وحدة هذه المكونات أساسية من أجل الدفاع عن إقليم الشمال الشرقي وشعوبها المختلفة، خاصة في ظل التوتر الأمني الذي استمر في سوريا منذ الثورة في عام 2011م وحتى اليوم، وخاصة بعد النجاح في القضاء على الارهاب ومحاربة داعش في مناطقهم بدعم من التحالف الدولي ، وهذا النموذج في العيش المشترك والمساواة والاعتراف بالآخر المختلف في الدين والعرق والقومية ، هذا النموذج يعتمد على نموذج اللامركزية الادارية الذي تكرّس وطُبق على أرض الواقع في منطقة شمال وشرق سوريا ، اللامركزية الادارية هي توسيع الصلاحيات المحلية في المنطقة البعيدة عن مركز العاصمة للحكم ، حيث تستطيع شعوب هذه المناطق أن تُدير شؤونها في الادارة المحلية ، خاصة أن هذه المناطق وفي بعض الاختصاصات والجوانب تكون مؤسسات مركزية تابعة لمركز الحكم أي العاصمة ، ومبدأ اللامركزية حتماً هو ليس تقسيم لجغرافية الدولة السورية .
واستكمالاً للاجتماع الذي عُقد في الحسكة ، فقد عُقد أمس اجتماع معزز لنفس المبدأ في مدينة بروكسل ، وهذا المؤتمر ليس مؤتمر رسمي لبحث مبدأ تطبيق اللامركزية الادارية ، بل هو اجتماع تحضيري يهدف إلى تبادل الرؤية وبحث سُبل تعزيز العيش المشترك وتعزيز مخرجات اجتماع الحسكة، والذي يضم شخصيات سورية تقيم في الخارج من اكاديميين في اوروبا والولايات المتحدة الامريكية .
ان مضامين إجتماع الحسكة تظهر المطالبة بدستور جديد للدولة السورية ، اي دستور ديمقراطي تعددي يخدم ويعزز مبدأ التنوع الديني والثقافي والقومي والعرقي ( للمكونات السورية )، ويؤسس لدولة لا مركزية ادارية داخل سوريا ، وبشكل خاص في هذه المرحلة المهمة للحكومة السورية الانتقالية المؤقتة .
والحكومة السورية المؤقتة قررت الانسحاب من مفاوضات باريس مع قسد ، خاصة بعد اجتماع الحسكة وتتهم مجلس سوريا الديمقراطية بعدم الجدية في تنفيذ بنود الإتفاق المبرم بين قسد ودمشق في العاشر من مارس الماضي ، ودعت الحكومة السورية المؤقتة للانخراط الجاد بهدف تنفيذ الاتفاق وتطالب بنقل المفاوضات بين قسد والشام الى العاصمة دمشق ، باعتبارها العنوان الشرعي الوطني للحوار بين جميع الاطراف السورية .
ومن المتوقع انعقاد اجتماع عمّان يوم الثلاثاء بتاريخ الثاني عشر من اغسطس لعام 2025م من أجل السويداء ، للمفاوضات بين جميع الأطراف ، ويجري المبعوث الأمريكي الخاص لسوريا توماس باراك ووزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي ووزراء خارجية عرب ووزير خارجية تركيا الجهود المكثفة بهذا الشأن، وذلك بهدف عقد المفاوضات مع الحكومة السورية ممثلة بوزير خارجية سوريا أسعد الشيباني وممثلين عن الطائفة الدرزية .
أعتقد أنه وفي المرحلة المقبلة سوف نشهد تطورات متسارعة ومفصلية في المشهد السياسي السوري ، والسؤال هُنا ، هل سيتفق الفرقاء أي قسد والشام في حل الملف والاتفاق المبرم بينهم ؟، وبالأخذ بالإعتبار التأثيرات الخارجية أي من الدول المعنية بحل الملف السوري المُعقد . وهل سيتوصلوا عملياً الى حل بين قسد ودمشق وبالاخص أن الحكومة السورية المؤقتة ترى أن مبدأ اللامركزية ، هو تقسيم سوريا وتصر على مبدأ الحكم المركزي ، وهذا أساس الخلاف بين الطرفين .
مستقبل سوريا الجديدة مرهون بالتطورات المستقبلية للملف السوري ، ولكن يبدو في الافق بوادر انشاء اقاليم في الجغرافية السورية ، على سبيل المثال إقليم الساحل ، واقليم الجنوب ، واقليم الشمال ، وتوجد أيضاً اشاعات لضم مدينة طرابلس اللبنانية الى اقليم الوسط السوري ، إن الأيام المقبلة سوف نرى خلالها الأمور تتبلور وهي أيام مليئة بالتطورات السياسية والعسكرية ، وأتمنى أن تكون سوريا المستقبل الجديدة موحدة بنظام حكم لامركزي ديمقراطي تعددي ، لتبقى سوريا المستقبل حرة أبية .