مرافعة للدفاع عن الصحافة..!!
من الصعب أن تكتب عن محنة الصحافة وأنت داخلها وتعايشها في كل لحظة، لكن أي خسارة هذه التي يمكن أن تقع لو أحس العاملون في هذه الصحف أنه لامستقبل لهم ولا لأولادهم في هذه “المهنه”، ثم بقيت الدولة بلا “أذرع” إعلامية تدافع عنها وتتبنى سياساتها وتنهض بمسؤوليتها الوطنية في عصر أصبح فيه الإعلام “طرفا” أساسا في معادلة الهدم و البناء؟!
وأي خسارة لو صحا المجتمع الذي بنى هذه الصحف واعتمد عليها بتشكيل”وعيه”ومعرفة ما يدور حوله، وقد غابت أو تعرضت” للإضعاف”والتهميش، لا شك أن صدمة الخسارة ستكون كبيرة ، و أن مشهدنا المحلي سيختلف سياسيا واجتماعيا، وسيكون أكثر فقرا أيضا؟!
محنة الصحافة ليست معزولة أبدا عن سياق “الأزمات” التي تعاني منها الكثير من مؤسساتنا الكبرى، فهي جزء منها وانعكاس لها، أثرت فيها وتأثرت بها، لكن ما حدث لهذه المؤسسات الصحفية يبدو مختلفا من زاويتين: أولهما داخلية تتمثل بإصرار هذه المؤسسات على “الصمود”سواءً من خلال “التكيف”مع المستجدات السياسية و اضطراراتها المعروفة ، أو من خلال “تجرد” معظم العاملين فيها من إغراءات المجال الخاص و ظروفة الصعبة للانحياز الى قضايا الشأن العام رغم ما تعرضوا له من محاولات للزج في “حقل”الصراعات، والزاوية الأخرى تتعلق بالمحيط الذي اعتقد بعض الفاعلين فيه أن ما قدمته تلك المؤسسات اقل من “الواجب” وبالتالي فقد جرت محاولات لتحميل هذه الصحف (وسائر وسائل الإعلام) مسؤولية ما حصل من انفلات في الخطاب العام أو الممارسات العامة، كما جرت محاولات أخرى لإضعافها وإثقال كاهلها بمزيد من الضرائب و التكاليف، وبدل من أن ترد الحكومات لهذه الصحف التحية بأفضل منها ردت عليها بأدوات أخرى…أقلها الصمت على محنتها وعدم مدّ يد العون لها (كاستثمار وطني) في إطار القانون…لا من خارجه.
يعرف “العاملون”في الصحف تفاصيل كثيرة عن هذه المحاولات التي استهدفت “اضعاف” مؤسساتهم ، ولكنهم احتملوها وتمسكوا “بشرف” المهنة الذي يمنعهم من “الجهر بالسوء”، إلى أن أصبحت أوضاع هذه المؤسسات المالية و الإدارية اسوأ من أن تظل في دائرة “الكتمان” أو أن تعالج بالإجراءات الداخلية المعروفة، عندها أصبحت القضية لا تتعلق”بالدفاع عن الحدود”بما تعنية هذه الحدود من مطالبات معاشية او تدريبية او اختلافات في وجهات النظر، بل بالدفاع عن الوجود، لا مجرد الوجود العياني فقط، بل الوجود الوطني و الرسالي و المهني و الإخلاقي ايضا.
الصحافة -إذن- تدافع عن وجودها “الوطني” فمؤسساتها ليست وليدة اللحظة ، بل لها جذور تاريخية يعرفها كل من واكب أو قرأ عن”تاريخ الصحافة الأردنية” و العاملون فيها منذ تأسيسها هم”نخبة”من مجتمعنا الذي استطاع ان يؤسس لمدرسة اعلامية ما تزال بصماتها موجودة ومعروفة داخل بلدنا وخارجه، وبالتالي فإن التعامل مع هذه الصحف بمنطق”المال” أو”السياسة الميكانيكية”، سيكون مجحفا بحق هذه المؤسسات، تاريخا وحاضرا، وبحق الدولة التي تحتاج إلى “إعلام” حرّ وحقيقي ومهني ، يحمل مسؤوليتها بنقل خطابها إلى الناس ، و مراقبة أداء مؤسساتها بنزاهة، وتنوير المجتمع و توجيه الرأي العام ، بما يخدم المصلحة العامة.
ما حدث من “احتجاجات “ داخل المؤسسات الصحفية يفترض أن يفهم في سياقين: سياق انتصار الصحفيين لمنطق الدولة ومشروع الإصلاح بما يتضمنه هذا المشروع من مطالب بالحرية و العدالة و الدفاع عن المجتمع وقيمته واحتياجاته، وسياق انتصار الصحفيين لمنطق “الإعلام” وأقصد إعلام الدولة ، الذي يجب أن يكون قويا ومحصنا وبعيدا عن كافة الصراعات و الاستقواءات لأي طرف كان، ووفق هذين السياقين الأساسين لا بد من قراءة “الحدث”الذي يجري أمام أعيننا بعيون أخرى إذا أردنا أن نحمي هذه المؤسسات ونعيد اليها اعتبارها، أما التفاصيل الأخرى التي يجري النقاش حولها ، فهي مجرد “أعراض”يمكن تجاوزها بحلول بسيطة اذا ما توجهنا فعلا إلى “العناوين” الصحيحة التي يقع فيها اصل “المرض” والى الصيدلية “ التي يكمن أن تصرف منها وصفة الدواء.
قلت إنني أكتب من”داخل”المحنة التي تمرّ بها الصحافة ، والمحنة أدق وصفا من (الازمة)لذلك تجاوزت عن كثير من التفاصيل ، خذ مثلا: “السوق”التنافسي في المجال الإعلامي في ظل ثورة الانترنت والاتصالات ، التكاليف الباهضة التي تدفعها الصحف على الورق و الضرائب ، و “رخص” الإعلانات الحكومية…وغيرها، الآن السؤال الآهم الذي يجب أن نجيب عليه هو: هل تريد الدولة أن تحمي هذه المؤسسات لكي تستمر وتؤدي دورها الوطني أم أنها ستترك لوحدها لتصارع التحديات وتواجه المصاعب دون أن يتدخل أحد لمساعدتها على”الصمود”؟
ليس لدي وصفة محددة للانقاذ، لكنني أعتقد أن أمامنا- سواء الإعلاميين او المسؤولين- فرصة للحوار والتفاهم على مخرج حقيقي وقواعد جديدة تعيد ترسيم العلاقة بين كافة الاطراف على أساس احترام الأدوار والمسؤوليات والالتزام بالمصلحة العامة وتمكين الإعلام من ممارسة واجبه بحرية، واستعادة عافيته التي افتقدها لأسباب خارجه عن إرادته، وعكس ذلك فإن الخسارة ستتوزع على الجميع..واعتقد أن هذا ما لا يريده أحد.