0020
moasem
002
003
004
005
006
007
008
previous arrow
next arrow

حُزْنُ ابن زيري

قال السَّمَرْدَحُ المؤرّخ في ذكر أحداث سنة سبع وثلاثين وأربعمائة وألف للهجرة: ولما دخل المتشبث الأشيب الملقب بالرئيس،على الوزير ابن زيري ، وكان يومئذ على الخارجية،وجده يبكي حزنا، قال: ما خطبك يا ابن زيري؟!أهو حزن على تقليدك الخارجية وحدها؟ فإن شئت جمعت إليها وزارة أخرى فكنت ذا الوزارتين! ثم لا أقيلك من وزارة ما حييت حتى يرثك الصالح من بنيك.

قال: ما أحزنني أيها الأمير وأبكاني إلا رجلٌ وامرأتان من بني قومنا،قيل أنهم قتلوا جميعا في أرض قيصر،قالوا قد عدا عليهم رجلٌ مجرمٌ فقتلهم من غير ذنب اقترفوه، وما كان ينقم منهم إلا أنهم من المسلمين.

قال: فما فعلت يا ابن زيري

قال: فإني قد قلبت أمري في ساعتي، ثم نظرت  ثم فكرت وقدرت! فرأيت أن أعلن عن حزني وأن أبث على الملأ لوعتي وأشجاني،وألا أعاقر شراباً،ولا احلق لمة،ولا اغتسل ولا أبدل ثوبا،حتى أتخلص من حزني ومن وجعي، وأن أبعث برسول إلى قيصر يبلغه ما أكابده من حزن ولوعة تفوق ما أملكه من الصبر،ولا أعدم في قيصر كما يعلم الأمير! فهماً واعياً وقلباً حانيا وقولاً شافيا, ولعله يبذل لي من ذلك ما يخفف عني ما ألقاه من الوجد والشجن.

 

قال المتشبث: وهل يصلح مثل هذا يا ابن زيري في مخاطبة القيصر، ألا ترى أنك ربما تثقل عليه في بثك الحزن بين يديه؟ فلولا بعثت إليه بأفضل من هذا حتى لا تستفزَّ غضبه، وتستحثَّ نَقمته!

قال ابن زيري: وكيف ذلك اصلح الله الأمير؟!

 

قال المتشبث الأشيب فابعث إليه بكتاب وقل له فيه:

 أيا أيها القيصر إنَّا ….قد وهبناك دِمانا

 فاغترف منها بِسرٍّ ..واغترفْ منها عَيانا

 

وهذا أبلغ في مخاطبته لو علمت، وأجدر ألا يحقد علينا ويجلب علينا بخيله ورَجِلِهِ فيطأ أرضنا ويذل رقابنا، فإنما الحازم من ترك  شيئاً ليحوز في مقابله أشياء.

 

وإنَّ قيصر اليوم أشدَّ ما يكون غضباً، وأكثر ما يكون تأثراً، فلو تركناه يخوض كما شاء في دماء بني قومنا، فما يضيرنا إن سلمت من بعد هذا رقابنا.

 

قال   ..فأطاع ابن زيري المتشبثَ، وبعث إلى قيصر، برسالة وهدايا، وقال فيها لا يغضبن سيدنا ومولانا القيصر، أن قتل رجل من بني قومه، امرأتين ورجلاً من بني قومنا، فإنما هي تِرَةٌ جررناها على أنفسنا كما قال (المتشبث الأشيب) فلا يكن في نفسك حرج أن تقتلوا من شئتم كيفما شئتم، فنحن قوم نحب الموت كما تحبون الحياة،وما من دمٍ تهرقه إلا وكانت خطيئته علينا،ولعلك لو سألت ذلك الرجل من قومك عما دفعه الى قتل من قتلهم لقال لك أنه ما فعل الذي فعل إلا غضباً مما فعلناه نحن من القتل، وقد كان أولى بنا الإستكانة والصبر، فلا تتكافأ الدماء في عرف العرب منذ الأزل،ولا يؤخذ الحر بدم العبد، فلا يكن في نفسك سخط على ذلك القاتل ولتَرْعَ فيه رحماً، فإن لم يكن بذي رحم عندك، فليكن العفو منك هو ما يسبق إلى خالصة نفسك.  

قال السَّمردح : فلما انتهى الكتابُ الى القيصر أعجَبَهُ،وقلَّبَ الهدايا بين يديه،وسمعه بعض من حضر مجلسه يقول: (ما أحسن هذا! والله ما بلغني شيء الغَداةَ فسرَّني مثله).