ذكريات من المقابر المسيحية في حلب
بقلم المهندس باسل قس نصر الله
حين زرتُ المقابر المسيحية لأول مرة – ولسببٍ لا أذكره اليوم – كنتُ في العاشرة من عمري. هناك، بدأتُ أمارس ما كنتُ أظنه معرفة بالقراءة … فصرتُ أقرأ أسماء الموتى على القبور، أتهجّى الحروف واحداً واحداً، وأربط أسماء العائلات بأسماء أصدقائي المسيحيين. وكنتُ أعود إليهم أسألهم عن تلك الأسماء، عن الذين رحلوا، وعن قرابتهم وصِلاتهم بهم.
في تلك اللحظة، بعقل طفلٍ لا يعرف بعد معنى الفقد، فهمتُ أن المقابر – كما يقولون – “أهلية محليّة”، فالكلّ يعرف الكلّ.
لكن الذي لم أفهمه إلا بعد سنين، هو ذلك الشعور العجيب بالراحة الذي انتابني حينها. لعلّه كان طمأنينة غامضة إلى أني، يوماً ما، لن أُدفن بين غرباء.
مرّت السنوات، وجاء زمن الثورة. فرأيتُ مدينتي حلب – وكل سورية – تنزف من حجارتها وشوارعها، وتفرغ من أهلها واحداً تلو الآخر. فهاجر من هاجر، وتشتّت الأحباب والأصدقاء، ومنهم من عبر إلى بيروت ليستريح قليلًا من أعباء الحرب، ثم ذاب في أصقاع الأرض، تاركًا خلفه مقبرة أجداده خالية إلا من الريح.
لم ولن أُلُومْ أحداً منهم، فلكلٍّ أسبابه وخوفه وحقه في النجاة.
ولم أدّعِ بطولة البقاء، فبقائي لم يكن بطولةً بقدر ما كان خوفاً… خوفاً من أن أُدفن في أرضٍ غريبةٍ لا تعرفني، ولا يعرفني موتاها. فكيف لي أن أموت في مدينةٍ لا تحمل وجهي في ذاكراتها؟
كيف لي أن أُوضع تحت ترابٍ لم أضحك عليه يوماً، ولم تلامسني شمسه أو برودته؟
أنا من الذين يحبّون الناس. وفي شوارع حلب، حين أمشي، تتبعني الأسماء والوجوه والتحيات.
يسلّم عليّ الناس، وأردّ التحية، وكأننا عائلة واحدة في مدينة واحدة.
لا أستطيع أن أتخيل نفسي في مدينةٍ لا يعرفني فيها أحد، ولا تعرفني أرصفتها.
في حلب، هذه المدينة التي تنام على كتف التاريخ، يعرفني الناس وأعرفهم.
حجارتها تعرف خطوي، وأرصفتها تحفظ وقع أقدامي، ومزاريب بيوتها ما زالت تهمس بأصوات المطر الذي كنا نسمعه سويّة.
باعتها الجوالون، عمال النظافة، شرطة المرور، وحتى ذبابها وبعوضها … جميعهم صاروا جزءاً من اعتيادي .. من يومي .. من حياتي.
فكيف لي أن أموت بعيداً عن كل هذا؟ وأن أُدفن في مدينة لا تُناديني باسمي؟
أن أرقد بين موتى لا وجوه لهم في ذاكرتي؟
نعم، ربما هناك مدن أجمل من حلب، كما أن في الدنيا أمهات أجمل وأكثر علماً وثقافة من أمي …
لكن، رغم ذلك، لا أحبّ إلا أمي.
وسورية، بكل مدنها وترابها، هي أمي التي أحبها… وكفى.
لهذا لم أغادر .. ولكن مستقبلاً من يدري.
ولا أعرف إن كنتُ قد أحسنتُ الاختيار أو أنتظر، لكني أعلم شيئاً واحداً:
أنني أنادي اللهمّ اشهد أنّي بلّغت.