عاجل
0020
moasem
sum
003
004
006
007
008
Bash
Hofa
Diamondd
previous arrow
next arrow

المحامية هبة أبو وردة تكتب: رقعة بلاعب أوحد

وكالة الناس

سيد الرقعة المتقلب .. فمن يقع عليه الاختيار بيدق للحظة، يجذبه بقوة غير مألوفة، تقارب مؤقت يشي وكأنه تحالف استراتيجي، لا يلبث أن يصبح ضحية الغد، فيدفعه إلى دوائر صراع لا تنتهي، على حين غرة.

في رقعة ترامب السياسية لا مكان للثوابت، يشكل قراراته وفق أهواء اللحظة، لا تردد يثنيه ولا حسابات تقيده، يرى العالم رقعة شطرنج في إمبراطوريته، حيث يحرك البيادق وفق هواه، يسقط الملوك إن تعارضوا مع خططه، ويعيد ترتيب الأحلاف كما يعيد القطع إلى مواضعها بعد كل جولة، فلا ثوابت تحكم لعبته، ولا تحالف يدوم أكثر مما تقتضيه مصلحته، كل خطوة لديه محسوبة، لكنها ليست وفق منطق الدول، بل الفوضى و الارتجال، وحين تكتمل أركان اللعبة كما يريد، لا يتردد في الانقلاب على قواعدها نفسها، حتى لو كان الثمن إحراق الرقعة بمن عليها، ليعيد اللعبة وفق قواعد جديدة لا يفهمها إلا هو، فقط ليضمن أنه الرابح الوحيد في النهاية،

إحدى جولات لعبته مع أوكرانيا وروسيا، وأكثر قطعة يجري تحريكها في هذه الجولة، زيلينسكي.. ليس لانه الأهم لكنه الأكثر قابلية للاستغلال، فهو ليس ملكًا يحظى بالحماية، ولا وزيرًا يرسم الخطط، بل حصانٌ يُدفع في كل الاتجاهات، يُطلب منه المناورة والمجازفة، لكنه في النهاية مجرد أداة تُستهلك في معركةٍ لا يتحكم بقواعدها، ولا يقرر نهايتها.

 

بدأت هذه الجولة بين ترامب وروسيا، لم تكن لصالح ترامب في حينها حيث انهالت عليه الاتهامات بأنه يتلقى دعما روسيا غير مباشر منذ حملته الانتخابية الأولى عام 2016، مما هز كيانه فكرة ان ثمة احد يملي عليه شيء فهو كان يسعى لخلق امبراطورية يُظهره، فأراد قلب الأدوار والإمساك بزمام الأمور لكن بطريقته الخاصة، وبمحاولة الاختيار بين الصدام المباشر مع بوتين او الإنحياز العلني له، تجلت قراراته المثيرة بعيدا عن ما كان يطرح من خيارات، تبدو أوكرانيا كأفضل المتوفر حينها، من جهة يحاصر نفوذ روسيا ومن جهة اخرى يصفي حسابات خاصة به تدور في عقله، وهكذا كانت أولى حركات زيلينسكي وهو خارج الرقعة اساسا.

زيلينسكي، لم يكن يوما بنظر ترامب رئيسا لدولة مستقلة تخوض صراعًا طويلًا مع روسيا، فمنذ أن تولى حكمه على أوكرانيا عام 2019، وجد نفسه منخرطا باللعبة دون أن يعي متى بدأت، تطلب الأمر من ترامب بعض الوقت ليستطلع قدرات زيلينسكي بحذر، كمن يختبر مرونة حصانه قبل ان يطلق العنان للعبة اكبر، يطلب منه المناورة في مواجهة روسيا، قفزة هنا مراوغة هناك، إلى أن ألقى له بالسلاح والدعم، لإبقاء موسكو في حالة استنزاف، ربما يبدو هذا التدرج والحذر على امبراطور الاندفاعية و الإثارة، لكن أكثر اللاعبين تهورًا يعرفون متى يتوقفون لقراءة اللوحة قبل تحريك القطعة التالية، ترامب رغم جنونه الظاهر، لم يكن ليستسلم لغريزته الفوضوية في مواجهة خصم مخضرم مثل بوتين، الذي لا يُستدرج بسهولة ولا تُختبر صبره دون عواقب، مدركا أن أي خطوة غير محسوبة في هذه الجولة خاصة، قد تكون مقامرة خاسرة، قد تجعل اللعبة تخرج عن سيطرته، مهما بدا مندفعًا، لم يكن ليجازف بخسارة مباراة بهذا الحجم، ولا حتى أن يمنحه سببًا لاعتبار المعركة محسومة سلفًا، لكنه لم يلبث أن ضجر وشعر أن الرقعة لم تعد تخدمه كما يريد، فقرر تغيير قواعدها، دهاء بوتن، كان كفيلا بان يجعله يفهم جيدا ان ترامب متلق المزاج، لا يلعب بولاء ثابت يلعب بمصلحة آنية تنقلب بلحظة، فقلب ترامب الطاولة بقرار مباغث دون ارهاصات، لكن ليس لصالح احد انما لصالح صفقةٍ أكبر يراها في ذهنه وحده.

بحركة كبيرة مفاجأة اصبح زيلينسكي ورقة مساومة، والسلاح الذي بالامس يتدفق دعما لأوكرانيا تحول إلى أداة ضغط، يُهدد بقطعه، نتيجة رفضه لفكرة لا تبعد كثيرا عما نراه الآن، بأن يكون بيدقًا في حملة ترامب الانتخابية حين طلب من زيلينسكي فتح تحقيق ضد جو بايدن وابنه هانتر، مستغلًا حاجة كييف للدعم العسكري، ليصبح الحصان الأوكراني مقيدًا بشروطٍ أمريكية لا علاقة لها بمصالح بلاده، أدت الى تجميد 400 مليون دولار من المساعدات العسكرية، في محاولة استخدام الدعم كسلاح ضغط، لكن كان ثمن هذه الحركة باهظا، فانكشف الأمر قاد به إلى مساءلته في الكونغرس لأول مرة أدت إلى عزله.

غادر ترامب البيت الأبيض في 2021 وكأنه آخر من يعلم ان اللعبة انتهت، يلتفت يمينا و يسارا وكأنه يبحث عن زر تراجع.. لم يجده بعد! بدأ يلوح بيده وكأن احد سيغير رأيه في اللحظة الاخيرة ويعيده للعبة! لابأس قرر اعتبارها هدنة ويريد العودة بأي لحظة، تاركًا خلفه مشهدًا سياسيًا ممزقًا بين أنصاره الجالسون رغم سدل ستار المسرح متشبثين بوهم العودة، وخصومه الذين كانوا يترقبون مغادرته خوفا أن يكون قد احتفظ بالمفاتيح في جيبه، وفوضى تصريحات لا تزال تتجول في الممرات تبحث عن معنى!

اغلقت ابواب البيت الأبيض خلفه.. حسنا لم تكن مزحة، ولان الانسحاب لا وجود له في قاموس ترامب، بحث عن شبك مناسب يهمس منه في أذن اللعبة السياسي من الخارج، حتى لا تعيد الرقعة ترتيبها.

 

صاحب الحظ القوي، لم يلبث ان اتيحت له الفرصة، اجتياح روسيا لأوكرانيا 2022، زيلينسكي إلى مركز اللعبة مرة اخرى، فاي فرصة عودٍ أفضل من هذه حتى في ظل غيابه عن الرقعة بشكل مباشر.

جولة جديدة، بايدن يتبنى كييف بشكل كامل، في محاولة للسيطرة على الرقعة، يد خفية تبعثر البيادق.. انه ترامب في الخلفية! بجهارته غير المنظمة، تصريح عبثي مهاجم به بايدن، زاعمًا أنه لو كان رئيسًا لما غزت روسيا أوكرانيا، وأنه قادر على إنهاء الحرب “في 24 ساعة”، ليس عبر الانتصار فيها، بل عبر صفقة كبرى مع بوتين، يبيع فيها أوكرانيا مقابل ضمانات روسية تخدم استراتيجيته الخاصة، لا وفق منطق الدبلوماسية، بل وفق منطق رجل الصفقات الذي يضع شروطه الخاصة.

الجمهوريون بدأوا من بداية الحملة الأنتخابية الأمريكية بالتشكيك في استمرار المساعدات الأمريكية لأوكرانيا، مهددين بوقف التمويل الضخم الذي يُبقي كييف صامدة، وهكذا، وجد زيلينسكي نفسه مرة أخرى في موقف الحصان المُنهك، الذي تم استغلاله مرارًا، لكنه الآن قد يُترك لمصيره إذا تغيرت قواعد اللعبة، مدركا أن ترامب لم يعد يخفي نواياه، فهو يرى في الحرب فرصةً لعقد صفقة كبرى مع بوتين، حتى لو كان الثمن التضحية بأوكرانيا وإجبارها على تقديم تنازلات مهينة، بعد صمود أوكرانيا طوال هذه المدة في الحرب رغم أن جيشها يعتبر منهكا نوعا ما ولم يكن يتوقع منه الثبات الى هذا الحد، بات جليا أمام زيلينسكي أن هذا المشهد لم يكن سوى ستارة دخانية، لا تلبث أن يتقشع، لتكشف عن صفقة ممهدة للوصول الى بوتن، الامر اشبه بحلم درامي ينقلب بالنهاية إلى إعلان تجاري بارد.

الآن، مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض، بات واضحًا أن رقعة الشطرنج ستُعاد صياغتها من جديد، زيلينسكي، الذي اعتقد يومًا أن واشنطن حليفٌ ثابت، يجد نفسه أمام خطر كبير لاسيما مع التلميحات التي التقطها الصغير قبل الكبير وكأن الأمر لم يكن سوى تمهيدا واضحا لمصالحة مرتقبة مع بوتين، ترامب لم يرى يوما في روسيا عدواً حقيقياً، بل منافسًا يمكن التفاهم معه وفق قواعده، في الحقيقة جوهر هذه النية لا تخفى على بصير ترامب لم يكن ولن يكن يوما داعماً لأوكرانيا بقدر ما كانت بيدق يستخدمه كوسيلة لتحقيق مصالحه في إعادة تشكيل النظام العالمي، وفق مقاييس امبراطوريته الوهمية.

الجولة الأخيرة من اللعبة، يناور البيادق كخطوة نهائية لاستخلاص أقصى المكاسب الممكنة قبل اقفال الرقعة، لكن الحصان الذي راهن على سرعة حركته بات منهكا، وأي راحة ترجى، زيلينسكي الذي ظنّ نفسه فارساً، فقد بدا كقطعة تُركت وحدها في منتصف اللوح، تلتفت يمينًا ويسارًا بحثًا عن ملكٍ يحميها، لتكتشف أن الملك كان يلعب لصالح نفسه منذ البداية، وأنها لم تكن سوى حركة مؤقتة في مباراة لم تُصمَّم لتكسبها البيادق، بدت ردود افعاله في اللقاء الأخير مزيج من إحباط وسعي مرتبك لإعادة تأويل الواقع لربما يحول الانكار الحقيقة الى مجرد سوء فهم عابر، بابتسامة باردة ترامب يتفحص ردود افعال البيدق أدرك انه لم يعُد يرى حاجة حتى لتحريك البيادق برفق، فقلب الطاولة مباشرة، معلناً ما كان واضحًا منذ البداية، اوكرانيا ليست من ضمن صفقاته.. أعاد ترتيب المكان، جهز كرسي قابل للطي، وارب الباب وجلس ينتظر بوتين لجولة جديدة.

تاركا زيلينسكي في مهب الغضب المتقد، لا مجرد انفعال… إنما استبصار بعد فواتِ الاوان، ان الحصان، مهما كان سريعًا، يظل أداة يُضحّى بها عند الحاجة.