تصدقوا بما تحبون
بقلم ناديه نوري
أخبرني أحدهم أنه كان ينتظر صديقه في مركبته الخاصة، وكان الجو شديد البرودة. أخرج كيسًا من المكسرات ليتسلى به ويخفف من وطأة البرد وملل الانتظار. فجأة، اقترب منه متسول وطرق زجاج النافذة بهدوء طالبًا المساعدة.
يقول ذلك الشاب: “نظرت إليه، فوجدته رجلًا مسنًّا، نحيف الجسد، رثّ الثياب. أشفقت عليه من شدة البرد في تلك الساعة المتأخرة من الليل، فأخرجت له أكبر عملة نقدية كانت معي، رغم أنني ضد التسول ولا أشجعه، لكن كبر سنه وبرودة الجو جعلا قلبي يرقّ له. تمنيت أن يكون المبلغ كافيًا ليشتري وجبة عشاء تقيه الجوع وتمنحه بعض الدفء. لكن الغريب أنه رفض أخذ المال، وأشار لي أنه يريد بعضًا مما آكل!”
تعجبت وقلت له: “هذه مكسرات، لن تسد جوعك!”
كان جوابه أغرب، إذ قال لي: “جوعي يسده قليل من المال، وأنا تعودت على الجوع، لكن ما معك اشتهيته، وليس لي مقدرة على ثمنه!”
وسط ذهولي من كلماته التي اعتصرت قلبي، وضعت له العملة النقدية في كيس المكسرات، وأعطيته الكيس كله.
هذا الموقف ذكرني بحادثة حصلت معي شخصيًّا. كنت مسافرة من الإسكندرية إلى القاهرة يوم الجمعة بصحبة زوجي وابني وأسرته. وكعادتي، أخذت معي بعض الحلوى والمعجنات ورقائق البطاطس المحمرة كي ينشغل بها أطفال ابني ولا يملّوا من طول الطريق.
في منتصف الرحلة، أُذّن لصلاة الظهر، فأوقف ابني سيارته كي يصلي هو وزوجي صلاة الجمعة في أحد الجوامع، وبقينا نحن – أنا وزوجة ابني وأطفاله – في السيارة. أخرجت بعض أكياس رقائق البطاطس للأطفال كي يتسلّوا بها، فاقتربت طفلة متسولة تطلب المساعدة.
أعطيتها مبلغًا من المال، لكنها بقيت تنظر إلى الأطفال لثوانٍ، ثم عادت إليّ وقالت وهي تشير إلى امرأة متسولة تجلس على باب الجامع تنتظر المصلين ليعطوها بعض المال: “أريد مما يأكل الأطفال.”
قلت لها: “خذي المال واشتري ما شئتِ.”
فقالت: “لا، أمي ستأخذ المال مني، وأنا أريد مما يأكل الأطفال. خذي أنتِ المال وأعطيني أكياس البطاطس!”
طفلة في عمر الخمس سنوات يستغلها ذووها في التسول وجني المال، بينما كل ما تحلم به هو بعض الحلوى التي في يد أقرانها!
إنها مواقف تحزن القلب، ومن رحمة الله بعباده أنه فرض علينا الزكاة وحثّنا على الصدقة كي نشعر ببعضنا ونعطي مما نحب، لا مما نستغني عنه فقط.
الصدقة ليست مجرد عطاء، بل اختبار لصدق حبنا لما نملك.
كانت السيدة عائشة – رضي الله عنها – تعطر المال قبل إعطائه للفقراء. وكان عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – يتصدق بالسكر لأنه يحبه، امتثالًا لقوله تعالى:
“لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ” (آل عمران: 92).
علينا أن نتعلم الإحسان بأجمل صوره، فلا نعطي الفقراء فضلات طعامنا، بل نعطيهم مما نحب ونأكل، لأن الكثيرين لا يستطيعون توفير أدنى مقومات الحياة لأسرهم.
الرحمة أجمل ما يميز الإنسان، وكل مال ننفقه إلى زوال، إلا مال الصدقة، فإنه يطفئ غضب الرحمن، ويكون لنا مكسبًا في الآخرة.