كتب.د. يوسف العجلوني .. “مطاقعة ومعاقطة”

 كتب.د. يوسف العجلوني

المطاقعة : كلمة عامية في اللهجة الأردنية المحكية: فنقول فلان ‘بطاقع’، أي عالي الشدة والتضخيم للحديث أو التصرف أو الرد بعشوائية دون استخدام العقل وعدم الموازنة بين الأمور، وبعيداً عن المنطق والأصول، ودون الإهتمام بالنتائج والضرر وشعور الطرف الآخر. والمطاقعة لها معاني أخرى مثل: إصدار أصوات باستخدام أدوات أو قد تكون صادرة من الجسم.
المعاقطة: كلمة عامية في اللهجة الأردنية المحكية: نقول فلان ‘بعاقط’ بمعنى ‘بِعَنفِص’، وتأتي لوصف سوء المزاج وعدم اللطف في الحديث أو التصرف. والمعاقطة أيضاً تُستخدم لوصف سلوك الحمير عند الغضب، حيث أن الحمار ‘بطنقر’ و’بدقر’ وبيغير مكانه، ويُدير ظهره ويبدأ ‘بالمعاقطة’، فنقول ‘دير بالك لا يعقطك الحمار’، أي يرفسك، وذلك عندما يرفع الحمار رجليه الخلفيتين بالهواء مع تثبيت الرجلين الأماميتين على الأرض كنقطة ارتكاز، فيعقط بمعنى يرفس أياً كان خلفه، ولا تهمه النتائج. فإذا رأيت شخصاً بدأ بالمطاقعة أو المعاقطة، فما عليك سوى تركه، والابتعاد عنه خوفاً من أن يسبب لك الإزعاج والعطل والضرر.

التجارب والخبرات والأحداث التي يخوضها الإنسان هي الطريق الصحيح إلى حل المشكلات والخلاص من توابعها ومضاعفاتها التي تنشأ، وكسب الوقت وتوفير الجهد. لذلك يجب إيجاد حلول منطقية، وبخطوات منظمة تخلو من العشوائية، وإلا سوف تؤدي إلى تفاقم الوضع وتعقيد الأمور، وجلب الضرر.

دائماً يجب الإنتباه لوجود مشكلة والاعتراف بها، ‘إن كنت تدري فتلك مصيبة، وإن كنت لا تدري فالمصيبة أعظم’. ومن ثم يجب تحديد مكان المشكلة بدقة، وجوانبها المؤثرة، وأسبابها الفعلية، ووضع الحلول في قائمة حسب الواقع والأهمية وأطراف المشكلة، والاستقرار على أفضل وأقوى حل، ولابدّ من صاحب المشكلة أن يمتلك الشجاعة الكافية لتنفيذ قرار الحل، ويكون الإجراء صارماً، وحتى لو كان هنالك خسارة معينة، وتبعات سلبية على المحيطين، وإذا تعارض الحل مع الواقع، فلا يكون هنالك أي تنازل ما دام الحل يصب في المصلحة العامة، ولكن يتم مراجعة خطوات وتبعات القرار، وحل كل مشكلة تظهر على حدا، والتطبيق ضمن الواقع والإمكانيات الموجودة.

الإنسانية مهما اختلف مستواها وتفسيرها وتطبيقها في المناطق والمجتمعات والدول، يجب أن تكون هي الأساس والمرجع والمعيار التقييمي لصلاح الإنسان أو فساده، والمعروف أن كل الديانات والقوانين والمبادئ جاءت لتركز على القيم الأخلاقية والإنسانية، ومعززة داعمة للمفهوم الإنساني والأخلاقي، فلا يوجد دين ولا قانون ولا مبدأ بلا إنسانية.

الثقافة في دول العالم الثالث فيها الكثير من التناقضات مابين الثقافة والواقع الإجتماعي، أصبحت العملية التعليمية لا تركز على بناء شخصية الفرد، ولا يهمها في معظم الأحيان الفكر والكفاءة، وأخذت كثير من دول العالم الثالث باستيراد الأفكار وتقليد دول العالم الأخرى، فضعفت ثقافتها أكثر وأكثر، وأصبحت ضعيفة وغير قادرة على فرض قيمها أو تحقيق ذاتها، لا حضارياً ولا إنسانياً، فضاعت الثوابت والقيم والعادات والتقاليد والدين، فهذه الدول لا هي حافظت على أصالتها وقيمها وطورت نفسها، ولا أخذت ما يناسبها من الحضارة الغربية ليتطابق مع ثقافتها ويبقى لها عنوان.

التفكير في دول العالم الثالث لا زال بنسبة عالية تفكير عنجهي وعشائري وعرقي، والمجتمع يهمه المنصب والسلطة، و’طعة وقايمة’،’والقاري والخاري واحد’، و’عمار أطقع من عميرة’، و’كل مين إيده إله’، وهذا التفكير يؤدّي إلى العشوائية التي جعلت المطاقعة والمعاقطة مجال للتفاخر والتسابق، ولم يعد يهمنا ما يحدث بالعالم من تطور وصناعات، ونختار أشخاصاً غير مناسبين في المناصب القيادية والتعليم وأمور الدين، اعتماداً على الطاعة، بغض النظر عن الكفاءة، والإمكانات الإدارية والقيادية، لذلك خسرنا كوادرنا العلمية والفكرية والثقافية، وأصبح لدينا مسؤولين وموظفين غير مؤهلين، تقودهم الشخصنة والمزاجية، والمحسوبية، مما يضعف ثقة المواطن بالدولة والقانون.

المطاقعة والمعاقطة هي أفعال تأتي في أوقات الفراغ، وتعبر عن العشوائية في التفكير والتصرف، وتدل على أن من يقوم بها يكون كل يوم بحال وفكر، ولا يستقر على شخصية أو موقف أو كيان، ويكون متخبطاً، وينقلب بسهولة، وممكن بعنف، فيصبح في عكس الإتجاه والفكر.

المطاقعة والمعاقطة مصيبة، وممكن أن تكون بمثابة المرض، وفراغ في الروح والعقل؛ ففي الفراغ الروحي يفقد الإنسان الإحساس الآدمي بكل ما حوله، ويعني عدم التأثر حينما تسمع قصة مؤلمة، ويظهر في برود الملامح، وتحجر القلب، وغياب الدموع. الفراغ الروحي يقتل الحياة ويُفقد صاحبه قيمة ذاته، ولا يريد أن يعرف ماذا يحدث، ويبتعد عن المواجهة وعن دوره الفاعل في الحياة. الفراغ العقلي لا يقل خطورة عن الفراغ الروحي، فليس مطلوباً من كل الناس أن يكونوا ممتلئي العقول، ولا يجب أن يكون الجميع فلاسفة وشعراء وعلماء ومثقفين، لأنهم حينها لن يجدوا من يزرع ويصنع ويصلح ويصمم ويبني ويخدم.

المطاقعة والمعاقطة يسببها الترهل الإداري، وعدم وجود أسس ومعايير واضحة، وعدم تطبيق القوانين على الجميع، ومن هنا يتصرف بعض الناس وكأنما الدنيا تابعة لهم، وتتجه الأمور لفرض وجودهم، وتغليب وجهة نظرهم وآرائهم، بعيداً عن الموضوعية والحقيقة، مما يؤدي إلى العشوائية والفوضى، ويعتقد المطاقعون المعاقطون أنهم دائماً على حق ورأيهم صحيح، ولا يقبلون أي نقاش، ويكون رد فعلهم متعنتاً ومتخبطاً ويعتمد على الصراخ وإطالة اللسان، وممكن أن يكون هنالك نوع من التعصب.

المطاقعة والمعاقطة سمة ترافق المجتمعات المتخلفة، وتزيد مع الوقت، حيث يمكن رؤيتها في المناسبات والشوارع والمؤسسات والخدمات العامة وفي الدوائر الحكومية والجامعات، ومراكز القرار والتعليم والشركات الخاصة، وممكن أن تكون هي الشيء السائد حتى بدأت عند بعض الناس تعتبر وكأنها ضمن الطبيعي، لأنهم تعودوا عليها في جميع شؤون حياتهم كلها، وأخذت وزن التعليمات والقانون، وبالتالي تجد حياتهم فوضى وضياع دون أهداف وغايات.

المطاقعة والمعاقطة تفقد الإتزان بين الواجبات والحقوق، فتختفي نقاط الخارطة، ولا تظهر معالم الطريق بوضوح، وكل جانب يعتقد أنه في الطريق الصحيح، ويبدأ الدمار الذي ينهي عملية التنمية، ويعرقل عملية التجديد والتغيير، ويؤدي إلى الشلل الفكري، ويزيد من أنانية الناس وسليبتهم.

المشكلة أن المطاقعة والمعاقطة ليست فطرية، وغالباً ما تعود للتربية والتنشئة الإجتماعية.تبدأ في الأسرة منذ سنوات الطفولة الأولى، وتؤثر على مسؤوليتهم تجاه الآخرين والمجتمع، ولكن الصحيح والواجب أن يكون سلوك اللامسؤولية مرفوضاً في كل الأوقات والأماكن، ويجب أن يُحاسَب من يتصرف به، لأنه من أَمِن العقوبة أساء الأدب.

المطاقعة والمعاقطة أسلوب فوضوي بكل ما تعنيه الكلمة، وضرره كبير جداً، ولا يتحقق من خلاله لا آمال ولا طموحات، ولا تقدم ولا رقي، لا للفرد ولا للمجتمع، وتسبب هدر المال العام، وهدر الوقت والجهود والإمكانات في العمل، وتكون بؤرة فساد داخل المؤسسات، وعدوى تنتقل بسهولة، وتؤدي إلى حالة من اللامبالاة، فهي تبعد الشخص عن التفكير بالنتائج، وتدخله في حالة من عدم الإكتراث، ويشعر بالفشل ويكره المجتمع ويحقد، ويعمل بلا مسؤولية، ويمكن أن يمارس المطاقعون والمعاقطون الخداع والكذب والتلاعب والإيذاء العمد، وعدم الرحمة والأنانية وعدم الإهتمام بمشاعر الآخرين، وحتماً ستؤدي إلى مشاكل وأذى وضرر للآخرين، وتؤدي إلى تدمير العلاقات الشخصية والإجتماعية، وتسبب الأذى النفسي والجسدي.

المطاقعة والمعاقطة وكأنه يسببها فيروس ينتشر في المنطقة العربية ودول العالم الثالث، وهو من أخطر الفيروسات التي تهدد أمن واستقرار المجتمعات والدول بجميع حيثياته، حيث أن لهذا الفيروس مستقبلات في الأدمغة المتصلبة والمتعصبة ذات الفراغ الروحي والعقلي، والعجيب الغريب في هذا الفيروس أنه إضافة إلى انتقاله عن طريق الإختلاط بكافة أشكاله، قد ينتقل أيضاً عن طريق التواصل عبر وسائل السوشال ميديا بجميع أشكاله وذلك إذا ما تم التواصل أو الدردشة مع شخص مصاب به. وتبين أنه متفشي جداً الآن، وسريع الانتشار، وفترة الحضانة له قصيرة جداً، وممكن أن تكون دقائق. من أهم أعراضه: النفاخ والضراط، والجنان والفصام، وعدم الإتزان الفكري. عندما يظهر المرض ممكن أن يستمر فترة طويلة، ويستعصي ويصعب علاجه. من مضاعفات المرض أن يتحور الفيروس إلى نوع شرس جداً يسمى فيروس ‘المنابطة والمعابطة’، من أعراضه المطاقعة والمعاقطة، إضافة إلى أشياء أخرى من العيب ذكرها. وبناءً على تصريح من العديد من خبراء الفيروسات والأوبئة، إن هذا النوع من الفيروسات ما بيحل عنك غير تايطلعك من دينك ومبادئك، وبتصير ‘تمزلط’ و’تطزلق’ و’تخنفر’، وأخيراً، رح يقضي عليك إنسانياً وفكرياً وروحياً، أنت وكل من يتعامل معك.

يجب أن يشارك المجتمع بجميع جوانبه وفئاته المختلفة في تحديد ومكافحة المعاقطة والمطاقعة من خلال توفير بيئة مناسبة للعلماء والأدباء والعقلاء، وفرض القانون والسلطة بالطريقة الصحيحة، وإيقاف المحسوبية والواسطة، وإعطاء المجال للإعلام الحر والأجهزة الرقابية بأخذ دورها الفعلي لبناء المواطن الحضاري المنتمي المؤهل، القادر على فهم الأمور والأحداث، الذي يتصرف بعقلانية ومنطق وموضوعية، وإحداث تغيير يطول كل مؤسسات الدول ويحقق الإزدهار.

نحن بحاجة إلى الإيمان بالعمل، والتخصص المهني، والثقافة الحرة، والتظافر المجتمعي، واهتمام كل شخص بما يعنيه، وترك الخلق للخالق، ونشر الوعي الأخلاقي المحايد، والتشجيع على السلوك الحضاري، وقبول الرأي الآخر، وفرز المرضى النفسين، والابتعاد عن المطاقعة والمعاقطة.

المفهوم الإنساني يفرض علينا احترام جميع الناس بكل ما يحملونه من أفكار ومعتقدات وأديان، وعلينا أن ننظر إلى جوانب الإتفاق والمحبة بيننا والتي تربطنا بالآخرين، لتكون مجالاً للتعارف والتقارب والتكامل، ويكون البناء والتقدم، ويجب أن نبتعد عن تصنيف الناس حسب دينهم وعرقهم وثقافتهم وانتمائهم. الإنسانية والمبادئ والأخلاق يجب أن تبقى الأساس، وتنهي من قلوبنا وعقولنا المشاحنات النفسية والفكرية، ويتحول الخلاف والكراهية إلى حالة من السلام المستمر، ويكون الحب والود والاحترام للجميع، دون أي مصلحة، و’كل واحد على دينه الله يعينه’.