فنان مساج
فَنّان مساج
الدكتور محمد السنجلاوي
منذ بضعة أيام، لا يدور على ألسنة الناس من حديث سوى مساج (أبو عليان)، يتحدثون عن لمساته الفرعونية الساحرة، وعن براعته الفائقة في تفكيك (زردات الظهر) بأنامله “اليعسوبية” الرشيقة، يذهب إليه أحدهم وهو (شِقْفة وَحَدِه) غير قادر على الالتفات يساراً أو يميناً، من شدة ما يعتريه من شد عضلي، أو التواء عروق، أو تيبس مفاصل، ولكنه يخرج من عيادة (أبو عليان للمساج) بحالة مرونة فائقة تكاد لفرطها تسيل أعضاء الرجل في الشارع، تنتابه بعدها حالة خِفة فريدة من نوعها، ترافقها حركات بهلوانية تعجز عن إتيانها (القرود) فوق الأشجار.
حدثني أحدهم (على ذمته): بأنه تعرض ذات يوم إلى حادث سير مروّع، نجى منه بأعجوبة، بعد أن كانت جميع المؤشرات تؤكد حتمية وفاته، حتى الأطباء الذين أجروا له العمليات الجراحية، كان لديهم إحساس مؤكد بأن الرجل إلى زوال، وإذا كُتبت له الحياة فإنه سيعيش مشلولاً.
فشاء له القدر أن يعيش، ولكنه عاش متنقلاً من عيادة علاج طبيعي إلى أخرى (داخل الأردن وخارجه) والنتيجة كانت دائما: ظهور أَمارات تحسن طفيف لا تكاد تُذكر، وظل الرجل على ما هو عليه من جلسات علاج عقيمة، مطرزة بأمل شبيه بأمل (المعري) في مشاهدة عروس من الزنج، وهي ترتدي قلائد الجمان.
هذا الرجل لم يرو لي قط عن عظيم فرحته وفرحة عائلته، عندما شاهد النور لأول مرة بعد أن فقد بصره لعدة أسابيع بعد الحادث، ولكنه ركز حديثه وسلطه على عالم ذلك الرجل الساحر والمعالج (أبو عليان) الملقب بالصيني لبراعته ومهارته في المساج، فتابع حديثه قائلاً: في الوقت الذي قررت فيه أن ألزم سريري، وفقدت الأمل في جميع المراكز والعيادات والأطباء، ألح عليَّ أولادي على ضرورة نقلي إلى عيادة (أبو عليان الصيني) وكنت لأول مرة أسمع بهذا الإسم، يقول هذا الرجل: لقد رفضت بشدة الذهاب معهم، ووبخت جميع الأهل والأولاد بصوت مرتفع: ألا تفهموون؟!! إن الله يُحيي العظام وهي رميم، كل العِظام الموجودة في العالم ينطبق عليها قول الله إلا عظامي، فأنا رجل جثة هامدة (ما بينفع معها لا صيني ولا ياباني) (ولكوا ردوا عليّ اقبروني اليوم قبل بكرة وريحوني) وعندما سمع الزوج والأولاد قول أبيهم الذي رجرجته الدموع، انهالوا عليه باللوم يبكون قائلين: استغفر ربك (يابا) أنت رجل مؤمن، وبتخاف ربنا، لا تكون قانط من رحمته.
بعد أن سمع (أبو الخير) كلام الأهل استغفر وحَوْقَل، مُسلماً قياده لهم، وبالفعل حمله الأولاد إلى عيادة (أبو عليان الصيني) وهو يضمر في داخله عزماً أكيداً على الإنتحار؛ للتخلص من حياته القاسية، والمرعبة، والمقززة – على حد تعبيره – يقول (أبو الخير): بعد أن ثبتوني على السرير، أومأ الطبيب (أبوعليان الصيني) برأسه للجميع أن أخرجوا، فخرج الجميع، بعدها أوعز لي أن أغمض عيني ففعلت، ليبدأ الساحر بالعزف على أوصال جسدي المعطوبة، وكانت هذه هي المرة الوحيدة، التي أحس بها في تلك الأعضاء.
قال (أبو الخير): بعد أن شنشلني الطبيب بالإبر الصينية، بدأت أشعر أن الحياة قد أصبح لها نكهة جديدة، فسارعت على الفور بطرد فكرة الإنتحار، وسرعان ما انتعشت بداخلي إرادة الحياة على وقع أصابعه، التي كانت تسير فوق جسدي برقة ونعومة، فكنت أقول في داخلي: ما أشبه حركاته الدافئة والناعمة بحركات (أم الخير)، وعندما كان ينتابني بعض الألم مع تغير مواقع أصابعه أقول: ما أشبه حركاته بحركات ابني الدفش (طافش) وهنا تنهد (أبو الخير) بعد أن توقف فجأة عن الوصف، ورفع يديه إلى السماء قائلاً: الله يطول عمرك ويرزقك يا أبو عليان وين ما أنت داير وجهك.
عندما استمعت إلى قصة (أبو الخير) وشاهدته بأم عيني كيف أصبح ينتقل من مكان إلى آخر بكل رشاقة، تدفقت الحياة في عروقي من جديد، فأنا أيضاً ذات يوم من شدة قهري على رسوب وفشل ابني في الانتخابات البرلمانية، بَعدْ ما حطيت اللي وراي واللي قدامي، وبعت البقرات، والجاجات، وجوز “بساس شيرازي”، من شدة قهري اطلعت أسقي ظهر دار ابني الجديدة، وفتحت المَيّ على وسعها، وكالعادة أخذتْ معي الراديو وفتحت الصوت على الآخر على نشرة الأخبار، اللي كانت بتحكي عن قرب إعلان التشكيلة الوزراية الجديدة.
فكنت يا ويلي اسمع أخبار، ويا ويلي أفكر كيف بدي أعوض الخسارة الجديدة بهزيمة ابني في الإنتخابات، ويا ويلي أدعي ربنا إنه ابني ينجح بمقابلة الوزير قبل ما يطير؛ عشان يرجعه لوظيفته في وزارة التربية بَعدْ ما خسرها بسبب الانتخابات، ويا ويلي … ويا ويلي….
وهون شفت ابن أخوي الأهبل، الأرعن، الأهوج “أبو ريالة” بركض من بعيد زي الثور الهايج، وبقول بأعلى صوته: عمي، عمي كحشوا (فايز) وما شاف الوزير، فما كان مني غير إنه من شدة فرحتي نطيت عن ظهر الحيط بدون وعي؛ لأنه فكرته بقول: رجعوا فايز وصار وزير.
ومن هظاك اليوم وأنا حالتي كحالة (أبو الخير) سابقاً لكن بَعدْ ما سمعت قصة فنان المساج (أبو عليان الصيني) تهللت أساريري، وحكيت لأولادي زُمُّوني عليه، وبالفعل بَعدْ ما أخذوني عليه كانت (الصدمة الكبرى) لما لقينا العيادة “مسكرة”، ولما سألنا جيران العيادة كان جوابهم كلهم واحد: أبو علي طار، وما بقدر حد يشوفه، أو يسمع أخباره غير من التلفزيون والجرايد.
يا تُرى فكركم، ليش أبو عليان سَكَّرْ عيادته؟!!
m.sanjalawi@yahoo.com
الدكتور محمد السنجلاوي