غزة بين صرختين : صرخة شمشون وصرخة الكرامة الإنسانية
إن سياسة تصفية الحسابات مع قطاع غزة، وسياسة العقاب الجماعي لأهلها الذين ما زالوا يدفعون ضريبة فوز حكومتهم (المنتخبة ديمقراطياً، والمقاطعة دولياً)، اتخذت في الآونة الأخيرة مساراً انحرف بشكل واضح نحو خندق (المؤامرة)، وذلك بالتزامن مع مفاوضات (فلسطينية – إسرائيلية – أمريكية – عربية)، تجاوزها التاريخ رغم إصرار أصحابها العرب على صيرورة النصر ذات الشروط الموضوعية، وعلى إيهام المواطن الفلسطيني جنباً إلى جنب مع أخيه العربي، بحيوية تلك المفاوضات، وخصوبة نتائجها على المديين القريب والبعيد.
إن حصار غزة أصبح يوصف اليوم، بأطول حصار في التاريخ، حتى عند مقارنته بحصار مدينة صور على يد “نبوخذ نصر”. وذلك بالطبع بعد تأمل ظروف وملابسات وعمق وأبعاد وأطراف كلا الحصارين التاريخيين، وأخذها جميعاً بعين الإعتبار عند القيام بعقد مقارنة بينهما.
لا شك أن حكومة غزة ومعها الشعب الفلسطيني – كما الشعوب العربية -، قد هشت وبشت في البداية كثيراً للإنتفاضات الشعبية، التي اكتسحت مجموعة من البلدان العربية تحت مسمى (الثورات العربية)؛ وذلك على أمل وصول زعماء ثوريين ومناضلين أو (منتخبون ثورياً)، ليحلوا محل أعمدة (الخيبة العربية)، التي جنت وتجنت على القضية الفلسطينية بخاصة وعلى الشعوب العربية بعامة. حيث أهملت الأولى، رغم متاجرتها بها وتعميقها لمأساتها وتقليمها لأظافر مقاوميها، ودجنت الثانية، وتاجرت بقوتها وشحذت أظافر ناهشيها.
ولكن في نهاية المطاف، أدركت (حكومة غزة) وأدرك معها الجميع، أن أغلب تلك (الثورات) في أحسن حالاتها، لا تخرج ولن تخرج عن نطاق “هبات مراكبية” لا أشرعة لها، على أرض يباس لا رياح فيها، سوى رياح الفوضى وأعاصير التناحر..
كما أنها في أسوأ حالاتها، لا تخرج عن نطاق “هبات مراكبية” موجهة، نحو شواطئ الأمل المفقود، يقودها قراصنة (متأمركون – متأسرلون) على أرض متلاطمة الدماء، لا رياح فيها سوى رياح المؤامرة وأعاصير الخيانة..
في ظل ما سبق، تطل علينا غزة بوجهها المقاوم المكلوم، لتؤكد للجميع بأن ما حدث وما سيحدث يصب – بما لا يدع مجالاً للشك – في اتجاه تصفية القضية الفلسطينية، وتهميشها وتحويلها إلى شأن داخلي، تدير دفة صراعها مع العدو الصهيوني، سلطة وطنية فلسطينية لم تنجح في التقدم خطوة واحدة، رغم تقديمها لعدد كبير من التنازلات باتت لا ترضي أحداً من الجانبين (الأمريكي – الإسرائيلي).
إن غزة أصبحت تعيش اليوم، وضعاً مأساوياً – بكل ما تحمل الكلمة من معانٍ ودلالات – وذلك نظراً للأسباب الآتية:
– حدوث الإنقلاب العسكري في مصر، فاقم من معاناتها نتيجة الحصار الخانق، الذي ضربته حكومة الإنقلاب على معبر رفح (في كلا الإتجاهين) هذا من ناحية، وإغلاق وتدمير الأنفاق الرئوية للقطاع؛ بحجة منع تسللل الإرهابيين، الذين باتوا يهددون أمنها الوطني والقومي – من وجهة نظر الإنقلابيين -، إضافة إلى الحصار الإسرائيلي القذر من ناحية أخرى.
– عدم وجود نية حقيقية لدى رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية “محمود عباس”، بعقد مصالحة جدية مع حكومة غزة، وقذف هذه الحكومة بالوقت نفسه بنعوت “الرجعية وخشبية الفكر”، ونعتها كذلك بالدفاع المستميت عن مصالحها، وبالتشبث الأعمى بمسلمات المقاومة، التي أصبحت من وجهة نظر خصومها (داخلياً وخارجياً) مسلمات تعاند منطق العقل والواقع ومنطق القوة والسياسة، فهي من وجهة نظر السلطة – ومن لفَّ لفَّها – تلتحم إنتاجياً بدول أصبحت أنظمتها تهدد الأمن والسلم الدوليين.
– إنشغال الإعلام الدولي (الموجه) بمتابعة ما اصطلح عليه (الثورات العربية)، أطاح بمعاناة غزة ومعها الشعب الفلسطيني إلى مهاوي النسيان والتهميش، والتركيز على جانب واحد منها متمثلاً بجانب (التفاوض العبثي)، الذي خدم العدو الصهيوني على جميع الأصعدة والإتجاهات.
– وجود إنقسام حاد في صفوف (النخب العربية الحاكمة) تجاه الأزمتين (المصرية والسورية)، اللتان عرتا مواقفها وشعاراتها القومية الزائفة، كما دلتا على تطابق واضح وتماهٍ صارخ مع مواقف الولايات المتحدة الأمريكية وربيبتها إسرائيل، بخصوص القضايا الشرق أوسطية بعامة والقضية الفلسطينية بخاصة. إضافة إلى تحول تلك النخب إلى أبواق وجوقة عازفين لسمفونية الإرهاب أحادية النوطة (الأمريكية – الإسرائيلية)، يتمتعون ببراعة فائقة وكفاءةٍ عزّ نظيرهما بين العازفين في التاريخ المعاصر.
بناءً على ما سبق، لقد أصبحت تعيش غزة واقعاً مريراً، في ظل صمت عربي ودولي مشين وغير بريء. حيث تحول حصارها بالفعل وكما ورد على لسان منسق الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة “ماكسويل جيلارد”: إلى إعتداء على الكرامة الإنسانية.
ولكي لا ننزلق إلى لغة الأرقام، فإنه يكفينا الرجوع إلى التقارير والأبحاث والإحصائيات الصادرة عن منظمات الأمم المتحدة، وبعض المنظمات الدولية غير الحكومية، لندرك عمق المأساة التي يعيشها أهل القطاع، بسبب نتائج الحصار الكارثية التي طالت جميع الأصعدة ( الإنسانية، والإقتصادية، والإجتماعية، والثقافية.. إلخ).
نستنتج مما سبق، أن جميع الأطراف الفاعلة والمعادية للقطاع وللقضية الفلسطينية، باتت تتمنى – وهذا ما تصبو إليه – حدوث حالات انتحار جماعي لأهل القطاع، بخاصة أن تلك القوى – وفق إحصائياتها – على علم تام بما ستؤول إليه أوضاع القطاع على شكل نتائج أكثر كارثية من ذي قبل في المستقبل القريب.
وأخيراً نتساءل: من يجرؤ على توجيه اللوم لأهل القطاع، إذا استلهموا – ذات يوم – قصة “شمشون”، وصرخوا بأعلى أصواتهم: علينا وعلى أعدائنا؟!!
للمتابعة على الفيس بوك: الدكتور محمد السنجلاوي