الثورة المتقاعدة!!
بعيداً عن المقولة المتداولة والمنسوبة الى جيفارا عن ضحايا الثورات وحاصديها, فإن عصرنا شهد ظواهر غير مسبوقة في هذا السيّاق منها ما يسمى الثورة المتقاعدة وهي بخلاف الثورة المستمرة أو المضادة أو حتى التي تأكل أبناءها وأحفادها أيضاً.
الثورة المتقاعدة هي باختصار تحول من صنّفوا سياسياً وثقافياً بأنهم ثوريون الى مجرد عاطلين عن العمل. وآخر ما يراهنون عليه هو استمرار راتب التقاعد، أو التحايل على مضاعفته سواء بالواسطة أو بتلفيق الأوراق.
والثوري المتقاعد مضجر جداً عندما يفتح باب ذاكرته ويستخدم كان واخواتها على نحو يحول الحاضر الى عدم.
وثمة نمطان من هذا التقاعد كي لا يلتبس الأمر، تقاعد تفرضه الشيخوخة كما حدث لنلسون مانديلا رغم أنه يواصل دوره كشاهد وحكيم من فراش المرضى، وتقاعد مبكر يتمتع به رجال دون الخمسين، لكنهم وجدوا أنفسهم بلا أي عمل أو مهنة، فالمهنة لم يكونوا بحاجة الى تعلمها واتقانها لأن المطلوب منهم هو رقم او نصاب عددي سواء لصناديق الانتخابات في مجمل الاتحادات والنقابات أو للاشتباك على طريقة قبيلة «غزية» وشاعرها الذي قرر الاستقالة من وعيه بحيث يغزو اذا غزت القبيلة ويرشد اذا رشدت!!
الثوري المتقاعد تشكلت ثقافته السياحية من مرافقته أو استماعه لمن هو أعلى موقعاً وأكثر تجوالاً. فمن فرنسا مثلاً لم يتعلم شيئاً عن كومونة باريس أو جمهورية فيشي التي أعلنها المارشال بيتان أثناء الاحتلال النازي لبلاده ولم يقرأ حرفاً لبول ايلوار الذي توزع الطائرات الفرنسية قصيدته عن الحرية في عيد التحرير، ولم يزر متحف اللوفر مرة واحدة ولم يحضر مسرحية واحدة، لكنه يعرف أسماء عطور وسيارات واكسسوارات حتى من ذهبوا الى أمريكا اللاتينية يتحدثون عن أنواع الشراب وأسماء الفواكه وحرارة النساء ولا شأن لهم بمثقفي تلك القارة وما جرى فيها من حروب ضد الديكتاتوريات.
ان سيل الذكريات لدى الثوري المتقاعد مبكراً هو احداث يومية ذات لون سياحي. أما وليّ النعمة الذي أتاح للمتقاعدين كل هذه السياحة باسم السياسة فهو معصوم حياً وميتاً رغم أنه قد يكون قاتلاً محترفاً وفي بعض المواقف خائناً!
وقد عبر الشاعر الصديق مريد البرغوثي بمفارقة موجعة عن مشهدين في الثورة المتقاعدة يقول:
سيدة تعرف كل محطات الفضة في باريس وتشكو
سيدة تبكي كل خميس في خمس مقابر وتكابر!
فثمة من يموتون ويدفعون الثمن مقابل العاطلين الذين يستثمرون هذا الموت، واذا كانت الأمور تقاس بالخواتيم فتعالوا نعد على أصابع أيدينا وأقدامنا اذا لزم الأمر ما أنجزته الثورة المتقاعدة في مختلف مجالات حياتنا، فالله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده.
أنجزت فساداً دابره أطول منه وثقافة على طريقة قبيلة غزّية، ومديونيات يتورط بها الحفيد الخامس أو السابع!
بالأمس، قال لي صديق بكلمات مفعمة بالأسى أن الأجيال التي قضت كانت تعطي من لحمها ودمها للثورات، لكن الطبعة الجديدة من هذه الثورات والتي بدأت قبل أكثر من نصف قرن أفرزت كائنات تتغذى على دم الثورة ذاتها وعلى ما يتبرع به الأغنياء والفقراء معاً.. الآن يمكنني أن اصدق بأن كلمة متقاعد هي بالفعل مُتْ قاعداً خصوصاً اذا كانت المهنة ثورياً سابقاً!