تثقيف المال وتطهيره!!
أثرياء العالم ليسوا سواسية وكذلك فقراؤه، فمن الفقراء من قرر بعصامية فذة ان يمتطي فقره وليس العكس وأن يحقق ذاته، مقابل آخرين وجدوا في الجريمة الطريق الأقصر لمعالجة الفقر، وهذه مناسبة أخرى للذكير بما قاله هانكوك ساخراً من حوار الشمال الموسر والجنوب المُعْسر، وهو أن أفضل طريقة للتخلص من الفقر هي إبادة جماعية لفقراء العالم!
أما الأثرياء فإن منهم من يسيل لعابه على المزيد من الثروة كلما شمّ رائحة الفقر تماماً كسمكة القرش التي تصيبها رائحة دم الفريسة بالسّعار، ومنهم من يسعى الى تثقيف ماله أو تطهيره.
وما نشر قبل أيام عن تبرع كارلوس سليم بمئة مليون دولار من أجل انقاذ الأطفال من الشّلل يثير شجوناً لا آخر لها خصوصاً أن الرجل يستكمل ما بدأه غيتس حين قرر هو الآخر أن يتبرع بمعظم ثروته للمنكوبين في هذا الكوكب المحتل والمختل معاً.
فما هو الفارق بين ثريّ يتلذذ بسادية ذئب كلما شاهد الفقراء يزدادون فقراً وبين ثريّ يوجعه ضميره قبيل النوم فيتذكر أن هناك مرضى لم يجدوا الدواء.. وفقراء باتوا على الطرق بلا عشاء.
قبل أكثر من ستة عقود لاحظ طه حسين أثناء وجوده في باريس هذا الفارق بين أغنياء متوحشين وأغنياء يحاولون الاعتذار للفقراء على طريقتهم. وكتب الرجل -بكثير من الأسى والإشفاق- عن أثرياء العرب وما ينفقونه بسفاهة تستحق الحَجْر عليهم.
قد يُقال إن الثري الذي يتنازل عن حصة من ماله للفقراء يريد أن يتوازن نفسياً وليس مهماً الدافع إلا إذا كان لأغراض سوقية وإعلانية، ما دام هناك من يشعرون بشيء من الخجل ولا يزالون على قيد ضمائرهم.
بالتأكيد شعر كارلوس سليم ومن قبله غيتس بأنهما من البشر الفانين وأن الكفن كما يقال بلا جيوب، وأنهما وسائر أثرياء العالم لن يأخذوا معهم شيئاً إلى باطن الأرض.
لهذا لا بد للثري من خيال كي يتصرف على هذا النّحو، والخيال لا يباع ولا يشترى وهناك من يعيشون بدونه كالسلاحف التي تحمل بيوتها على ظهورها حتى الموت ثم تتحول البيوت الى قبور.
إن مليارات الجياع والمرضى والمشردين على هذه الأرض هم الأدانة الأفصح من أي أرقام لما انتهى اليه البشر من ظلم وافتراء، بحيث يبدو الكهف أحياناً أرحم من ناطحة السحاب.
مبادرات من هذا الطراز قد تجد من يقرأوها عدة قراءات، وقد يؤولونها أيضاً في المجال الاقتصادي، لكن وجود نماذج بشرية كهذه يؤكد أن الخجل لم يدفن بعد، وأن الإنسانية تدافع عن نفسها ولو رمزياً ضد تهمة التوحش والسادية.
وفي عالمنا العربي الذي يعج بالعشوائيات ثقافة وعمراناً وأخلاقاً ثمة من يستطيعون إغاثة المنكوبين، لكنهم لا يعفون عن قرش واحد إذا كان إضافة الى مليار دولار، ولأنهم بلا خيال فهم يتوهمون الخلود.
أخيراً، هناك مال أمّي وأعمى وذو أنياب، مقابل مال يحاول تنقية نفسه وتثقيفها!!