كيف انفجرت فُقّاعات الفساد؟
كتب: حسين الرواشدة
منذ سنوات، تراجعت الاصوات الشعبية التي تطالب بمكافحة الفساد، للتذكير فإن أغلبية الأردنيين الذين خرجوا للشارع، او ركبوا موجة المطالبة بالإصلاح، أعتقدوا -آنذاك- أن الفساد (أمّ) مشكلاتنا، وسر خيباتنا، وأن مكافحته وحدها كفيلة بتحريرنا مما نحن فيه، ابتداء بإطلاق مشروع الإصلاح، وصولا لإعادة الدولة إلى سكتها الصحيحة، وإعادة ثقة الأردنيين بها أيضا.
لا أدري إذا كان هذا «الاختزال» صحيحا أم لا، ما اعرفه هو أن موضوع الفساد تحوّل إلى رمز لإدانة سلوك إدارات الدولة المتعاقبة، وتجريحها أحيانا، ثم إلى بالون كبير، نفخ فيه البعض لتسويق مطالباتهم وشعاراتهم، من خلال دغدغة مزاج الأردنيين ومشاعرهم، فيما النتيجة التي نكتشفها، الآن، تشير إلى تشخيصات أخرى مختلفة تماما.
آخر قضية فساد أشغلت الرأي العام، في بلدنا، كانت قضية الدخان (2018 )، بعدها لم نشهد قضايا فساد كبرى مماثلة، هيئة مكافحة الفساد تتولى مهمة متابعة ملف الفساد، وتطالعنا الأخبار بين الفينة والأخرى بقضايا فساد قيد التحقيق، أو أخرى أُحيلت إلى المحاكم، تتوزع بين القطاع العام والقطاع الخاص، هذا الأخير، ربما، يتفوق على الأول من حيث عدد القضايا وحجمها.
لا يعني أبدا أن الفساد انتهى، وان العدالة انتصبت موازينها، لاستئصال الفاسدين، لكن يمكن الاطمئنان إلى أن الهيئة تقوم بواجبها، وأن انطباعات الأردنيين حول تمدد الفساد، المالي تحديدا، وحجمه، لم تعد كما كانت، هل كانت مجرد فقاعات انفجرت ؟ إن صح هذا التقدير، فهو مؤشر إيجابي، يسجل لمؤسسات الدولة، والمواطنين أيضا.
ما أريد أن أقوله هو أن المعارضة لدينا، سواء اكانت أحزابا ام نخبا، اخذت الأردنيين إلى زوايا حرجة، وحشرتهم فيها، على اعتبار أنها أولويات ملحة، الأمر الذي استنزف من الجميع الوقت والجهد، في تبادل الاتهامات والشكوك، وادارة الصراع على السياسة، لنكتشف، الان، أننا أهدرنا ذلك في لزوم ما لا يلزم، وأنه لو انشغلنا في قضايا أخرى اهم، لأنجزنا و تمكنا من مواجهة مشكلاتنا بصورة افضل.
الشاهد هو ان ما جرى من نقاشات حول ملفات الفساد، خلال السنوات المنصرفة، كان مثالا لما أشرت إليه، كما ان ما يحدث، الآن، في قضايا أخرى سياسية، واقتصادية، واجتماعية، يتعمد البعض اختصارها في ملف «التدخلات «، أو غياب الإرادة السياسية، أو إشاعة الانحلال الاجتماعي، وغير ذلك من الانطباعات العامة، وإطلاق التعميمات التي لا تستند إلى معلومات، يشكل، أيضا، أمثلة أخرى لممارسات بعض النخب، التي تستهدف إغراق الأردنيين في مستنقع الفشل وانعدام الفرص، لهدف واحد، وهو ابقاء الوضع القائم على ما هو عليه.
من الملاحظات الهامة ان تعميم ظواهر الفساد العام، وكذلك الإحباط واليأس، وترسيخ غياب الثقة، وإشاعة صور نمطية عن الأردنيين كقاصرين، وعن إدارات الدولة كجزر معزولة وعاجزة، مسألة مشغول عليها، وتتم بقصد من فاعلين، وليست صدفة أبدا، الدليل على ذلك أن معظم الذين يروجون لسطوة الفساد، وتمدده، وأنه غير قابل للحصار القانوني أو السياسي أو الاجتماعي، هم كبارُ الفاسدين.
هؤلاء وجدوا أن إظهار البلد كمستنقع للفساد، وإقناع الأردنيين بذلك، هو اقصر طريق للحفاظ على فسادهم وحمايته، خاصة أن مكافحة الفساد تحولت إلى مباريات لشتم الفاسدين وشيطنتهم، فيما استخدموا مدرجاتها، بمهارة، كمظلة رعاية لهم، و بمثابة «منطقة خضراء « محصنة، لا يدخلها غيرهم.
لا يخطر ببالي، أبدا، التهوين من خطر الفساد، سواء أكان ماليا أو إداريا، والأخير أخطر، أو إنكار وجود الفاسدين، ما أقصده هو الانتباه للمصائد والفخاخ التي يتم نصبها لاصطيادنا، وذلك من خلال المبالغة وإصدار الأحكام بناء على الانطباعات، وتهييج المشاعر، بموازاة تغييب الحقائق والاولويات التي يفترض ان ننشغل بها كأردنيين.
هنا من واجب الأحزاب، في هذه المرحلة، وكذلك النخب التي تتولى توجيه الرأي العام، أن «تعقلن» الخطاب الشعبي، وان تخدمة لا أن تستخدمه من أجل مصالحها السياسية، ما يعني أن وضع أولويات الخروج بالبلد من أزماته، يحتاج إلى عناوين واقعية مدروسة، تتناسب مع حالة الدولة وحاجات الناس؛ الإنتاج والعمل، ومواجهة الفقر والبطالة، ودفع عجلة السياسة نحو الحوكمة والدمقرطة، يمكن أن تكون أفضل من حقن الناس بأحلام القضاء على الفساد، وأوهام الرفاه بمزيد من الاستهلاك، والقروض، والوظائف الجاهزة