سلطانة الثقافة
رُسل الناصر
تدخل في إيقاع المدينة السريع، تعتقد للوهلة الأولى أنه ربما يُشبه إيقاع عصرنا، لتكتشف أنه ليس فارغًا بل مليءٌ بجوهرٍ خامٍ وأصيل. وكأنك ركبت فجأة قطارًا فائق السرعة عبر الزمن، مسافرًا من قاعات حديثة إلى مسارحَ قديمةٍ تشتم فيها عبق القرون الماضية، وعابرًا عصورًا وقصصًا مختلفة، قصصَ كفاح، ومضات من أحلام، كوميديا، خيبات أمل. ورقصات وموسيقى، وأملٌ يُصرحُ به بصوت واضح وشجاع … وأكثر.
يتغير عمرك خلال اليوم بتنوع العروض التي تحضرها، وتتحول أدوارك في الحياة في لحظات، من مراهق، إلى أمٍّ، وربما ترى نفسك كهلاً، فتجد فجأة شخصك هناك جالسًا في زاوية المسرح تنظر إلى نفسك.
ترافقك في هذه المشاهد المتغيرة بسرعة في تآلف وتآمر كوني عليك، تقلبات الطقس المتغير فجأة وبسرعة تتناسب تمامًا مع ما يحدث لك وبك من تقلبات، شمسٌ تُشرق، ثم تُمطر، تصبح السماءٌ رمادية وتشعر بلسعة الهواء، وعندها تظهر الشمس ثانيةً تبعث فيك الدفء. كل هذا يحدث لك في . . . في سويعات!
في المسارح.. تضيع في هذه العوالم المصغّرة… تضحك، تبكي، وقد تغفو للحظة، لتستيقظ على صرخة الممثل أو ضحك الجمهور، فتدرك أن شيئا ما قد فاتك! تمامًا كما يحدث في الحياة.
في هذه المدينة، يستيقظ الناس باكرًا ليقفوا في طوابير طويلة لحضور المسرحيات. صباحًا قبل كل شيء!
وحتى لو خيّب العرض أو الفنان ظنّهم… يُقدّرون الإنجاز ولا يغادرون المسرح حتى اللحظة الأخيرة، مُنصتين بهدوء واحترام للجهود في عالمٍ يرفض أن يسمع الحقيقة!
وفنانون يُناضلون من أجل قضيةٍ ومن أجل العدالة والحق، يقفون على خشبات المسارح ويقابلونك بأعينهم الحادة وأصواتهم الواضحة وكلماتهم القوية، بكل حضور وإيمان راسخ، دون خوفٍ من أن يتعرضوا للتهميش أو الإخراس أو الأذى.
والنساء هناك، يتربعن ويسيطرن على المسارح بحضورٍهن الباهي، ويُمثّلن في إناءٍ يفيض بالحب والحزن معًا. وبأصواتهنّ النقية العميقة، يُحيين ما تبقى لنا من إنسانيتنا.
وخلال الفعاليات في المدينة تراهن يُعنين بكل التفاصيلِ بخفةٍ أثيريةٍ ودقةٍ لا تُضاهى.
هذه مدينة تُشعرك كأنك في تحفةٍ فنيةٍ من أفلام الرسوم المتحركة، نسيجٌ من العمارة المذهلة ممزوجٌ بالكوميديا والموسيقى والرقص، وأنت تركض من مسرح لآخر، تسمع كل يوم صوت “المزمار Bagpipe” الخفي عبر المدينة يأتيك في أماكن وأوقات مختلفة، لتكتشف لاحقاً وبتزامن يثير فضولك أن هناك أسطورة ما زالت تعيش في شوراع هذه المدينة حول “الشبح الذي يعزف المزمار Bagpipe”…
يجتمع أناسٌ من جميع أنحاء العالم، على الإطلاق بكل بهجة وحب! لقاء يشعرك وكأنك درت حول العالم وأنت في مكانك. فتنجلي روحك هناك، بغض النظر عن — من أنت أو من أين! –، لتدور في فطرة كونية كما لو كنت في دوامة قوية سريعة من الريش الناعم تُشعرك بالدوار، ومع ذلك تبقى ثابتًا في القطار المتحرك.
أينما ذهبت، تجذبك العروض المرتجلة. في الشوارع، يشجعك الدفء الحقيقي للناس المتفاعلين مع فناني الشوارع على الانضمام، ما يخلق لحظات قصيرة وعابرة من التواصل الإنساني العميق الذي يتشاركه سكان المدينة معك ومع الفنانين، بشكل بسيط وتلقائي وعفوي.
وتختصر كلمات فَطِنةٌ لسائق سيارة أجرة “سحر المدينة” في محادثة لافتة ودافئة لتعلو فجأة ضحكات كل من في التاكسي.
وفي نهاية الرحلة، تلاحظ نفسك أنك أصبحت تطوف في المدينة بكل خفة وحرية كزهرة الهندباء تلك التي استقبتلك وانت قادم في المطار وكانت أول كائن رحب بك بحفاوة فطرية من طبيعة الكون، وربما نثرت بذرة من محبتك في تراب هذه المدينة قبل أن ترحل.
ثم تغادر، ويبدو أن الزمن قد توقف، عائدًا إلى إيقاعه الرتيب والممل.
وتستيقظ ذات يوم لتدرك أنك في هذا العالم الأعمى قد مررت في مدينة الصحوة…
مكانٍ يجسّد القيم الحقيقية وجوهرالإنسانية والفن والفكر في جرعة زائدة لتبصر “الثقافة” في أبهى صورها.
هذه إدنبرة، إنها وبلا منازع “سلطانة” الثقافة على هذا الكوكب.