نور على نور: المولد النبوي، مناسبة لتجديد الإيمان والانتماء الوطني
بقلم: الدكتورة نوال محمد نصير
في كل عام، ومع إشراقة الثاني عشر من ربيع الأول، تتجدد أنوار السماء والأرض بذكرى مولد سيد البشرية، محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام. وفي هذا العام، يتزامن الرابع من أيلول مع هذه الذكرى المباركة، ليكون موعدًا ليس للاحتفال فحسب، بل للتأمل العميق في رسالة النبي الخالدة.
قال الله تعالى:
(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) الأنبياء: 107.
هذه الآية الكريمة تختصر جوهر المولد الشريف: رسالة رحمة، تتجاوز حدود الدين والجغرافيا، لتشمل الإنسانية كلها.
المولد النبوي… محطة إيمانية
المولد الشريف ليس مجرد ذكرى تاريخية، بل هو محطة تتجدد فيها القلوب وتزداد فيها الأرواح إشراقًا. يوم يذكّرنا أن ميلاد النبي عليه الصلاة والسلام كان بداية لرحلة غيرت مجرى التاريخ، وأخرجت الناس من الظلمات إلى النور.
اليوم، ونحن نواجه أزمات سياسية، بيئية، واقتصادية، يظل المولد النبوي منارة تلهمنا الصبر والثبات. فقد علّمنا النبي أن القوة الحقيقية ليست في السلاح ولا في المال، بل في الإيمان والرحمة والتضحية.
القيادة النبوية كنموذج إداري
النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن قائدًا روحيًا فقط، بل كان إداريًا بارعًا وقائدًا تحويليًا استطاع أن يوحد أمة مشتتة.
قال النبي عليه الصلاة والسلام: “كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته” (رواه البخاري ومسلم)
بهذا الحديث وضع عليه الصلاة والسلام أساس القيادة الإدارية القائمة على المسؤولية والشفافية.
من دروسه في الإدارة:
التخطيط الاستراتيجي: كما في الهجرة النبوية التي نُفذت بخطة محكمة.
إدارة الأزمات: التعامل مع الحصار والمقاطعة بثبات وصبر.
إدارة التغيير: نقل المجتمع من الجاهلية إلى الحضارة.
المولد والاقتصاد الوطني
من أهم ما نستحضره في ذكرى المولد الشريف هو العدالة الاقتصادية التي دعا إليها الإسلام. فقد أسس النبي عليه الصلاة والسلام سوق المدينة على مبدأ المساواة ومنع الاحتكار.
قال الله تعالى:
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا (الأنعام: 152(
هذا المبدأ الإلهي يؤكد أن الاقتصاد القوي لا يقوم إلا على العدل. واليوم، في ظل الأزمات الاقتصادية التي يواجهها الأردن والعالم، نحن بحاجة إلى تطبيق هذه القيم في سياساتنا: حماية المستهلك، دعم التكافل الاجتماعي، وضمان الشفافية في الأسواق.
المولد كرسالة إنسانية
قال النبي عليه الصلاة والسلام:
“إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق” (رواه مالك(.
هذا الحديث الشريف يبين أن الرسالة النبوية ليست شعائر فقط، بل منظومة قيم وأخلاق.
الأردن، بقيادته الهاشمية، يقدم للعالم نموذجًا لهذا البعد الإنساني: الاعتدال، الوسطية، ورعاية المقدسات. وفي ذكرى المولد، نحن مدعوون لنُبرز للعالم الصورة الحقيقية للإسلام: دين رحمة وسلام، لا عنف ولا تطرف.
المولد والبعد الوطني
في الأردن، الرابع من أيلول ليس مجرد عطلة رسمية، بل مناسبة وطنية ودينية نلتف فيها حول قيمنا المشتركة. وهو فرصة لتعزيز الوحدة الوطنية وتجديد الولاء لقيادتنا التي تحمل إرثًا نبويًا عظيمًا.
المولد النبوي في الأردن يكتسب بُعدًا خاصًا: إنه ليس احتفالًا فرديًا، بل احتفال جماعي بالهوية الأردنية الجامعة، التي تستمد قوتها من الإسلام، وتترجمها إلى سياسات ومؤسسات قائمة على العدل والتوازن.
خاتمة
٤ أيلول من هذا العام ليس مجرد تاريخ، بل نافذة نطل منها على سيرة عظيمة تُعلمنا كيف نصبر ونُدير حياتنا وأزماتنا بروح نبوية.
قال الله تعالى:
لَّقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ (التوبة:
128(.
فلنجعل من المولد النبوي محطة لتجديد الإيمان والعمل، ولنستلهم من سيرة محمد ﷺ قيم الصبر والرحمة والعدل. وليكن هذا اليوم دافعًا لنا لبناء أردن أقوى، أكثر عدلًا، وأكثر رسوخًا في قيمه الروحية والوطنية.
اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.