الزحف نحو روسيا الكبرى
عمر منصور
وكالة الناس ــ لم تبتعد أعين المسؤولين الروس عن أوكرانيا منذ تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991 وحتى ألان ,الجمهورية التي كانت جزءا أصيلا من دولة- كييف روس – روسيا القيصرية في القرن التاسع الميلادي والتي انبثقت منها روسيا الاتحادية و بيلاروسيا والتي تشترك مع الدولة الام في الثقافة و التاريخ و حتى اللغة.
نقطة البداية كانت حين سقط جدار برلين عام 1989 الذي كان يفصل بين ألمانيا الشرقية و الغربية, اعتبر هذا التاريخ بداية لحقبة جديدة جعلت من العالم أحادي القطب في ميزان القوى من جانب الولايات المتحدة الأمريكية و بداية الانهيار الوشيك للاتحاد السوفيتي الذي تفتت أمام أعين الروس جمهورية تلو الأخرى.
في عام 1990 بدأت مفاوضات بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية لإقناع الروس بضم ألمانيا الشرقية التي كانت تحت نفوذ السوفييت وإعادة توحيد الألمانيتين تحت مظلة الاتحاد الأوروبي حيث وعدت واشنطن عند موافقة روسيا على ذلك بأنها لن تقترب باتجاه الشرق شبرا واحدا ,وهذا هو الوعد الذي ما إن تم إعلان انهيار الاتحاد السوفيتي حتى هرولت واشنطن ومعها الغرب لتنكث به ,معلنة نيتها الواضحة بمحاصرة روسيا و تحجيم نفوذها بابتلاع شرق أوروبا كلها بل حتى روسيا نفسها إن أمكن ذلك.
تأسس حلف شمال الأطلسي عام 1949 تحت عنوان واضح – الدفاع الجماعي ردا على أي هجوم محتمل من أطراف خارجية- كما نصت وثيقة التأسيس , إلا أن هذا الهدف بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وانهيار حلف وارسو بدأ يتغير إلى اتجاه أخر الا وهو ” تكبيل الروس” وحماية شرق اوروبا من ظهور أية قوة عظمى يمكن لها أن تنافس الولايات المتحدة الأمريكية مستقبلا , خصوصا انه لم يعد هناك ما يشكل خطرا حقيقا على مصالح الغرب سوى أن تعيد روسيا إنتاج نفسها كقوة إمبراطورية عظمى مرة أخرى .
عام 2004 دعى جورج بوش الابن إلى ضم كلا من أوكرانيا وجورجيا إلى الاتحاد الأوروبي وبالتالي إلى حلف شمال الأطلسي , كان مجرد الخوض بهذا الموضوع يعتبر تهديدا مباشرا لأمن الروس وأعرب عن ذلك بوتين عندما صرح لإحدى الصحف الروسية أن نشوء حكومة معادية لموسكو على الاراض الجورجية هو بمثابة استخدام سلاح دمار شامل ضد روسيا ,لذلك كان الرد على هذه التصريحات قاسيا من الروس اذ غزت روسيا جورجيا عام 2008 في حرب سميت بحرب الأيام الخمسة لتدعم حكومة موالية لمصالحها هناك.
في فبراير عام 2014 اندلعت سلسلة احتجاجات في أوكرانيا عرفت بحركة الميدان الأوروبي شارك فيها أعداد ضخمة من المتظاهرين الغاضبين ضد سياسة الحكومة الأوكرانية و الرئيس المنتخب فيكتور يانكوفيتش بعد اتهامه بالتخاذل بمسالة التقارب الاقتصادي مع الاتحاد الأوربي و استمراره في تاحيل توقيع اتفاقية شراكة تجارية مع الاتحاد منذ عام 2012 والتي اعتبرها البعض انها ضغوطات روسية ذد مصالح الاوكران ,انتهت هذه الاحتجاجات بإسقاط نظام فكتور و هربه إلى حلفاءه في موسكو .
أعقبت هذه الاحتجاجات تغيرا في سلوك الحكومات التي قادت أوكرانيا لتزيد من توثيق علاقاتها مع الغرب و الولايات المتحدة الأمريكية ,فبدأت الحكومة المؤقتة و التي كانت بقيادة أرسيني بيتروفيتش السياسي و الخبير الاقتصادي بتوقيع اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي و حاول ابعاد كل حلفاء الروس عن مناصبهم في أوكرانيا لإعادة الاستقرار في البلاد, إلا أن الثورة الأوكرانية كشفت عن انقسام حقيقي في المجتمع الأوكراني حول مصالحه ومستقبله و اختيار حلفاءه, حيث رصدت إحدى مراكز الاستطلاع أن 34 % من الشعب الأوكراني اعتبروا أن ما حدث في 2014 هو انقلاب مسلح على النظام السياسي بينما اعتبر 56% منهم أنها ثورة شعبية بكل المقاييس .
في القرم الذي كان جزءا من روسيا الاتحادية منذ القرن الثامن عشر والذي أعيد ضمها الى أوكرانيا عام 1954 تظاهر محتجون ينتمون للقومية الروسية على سلوك الحكومة الموالية للغرب وما أفرزته حركة الميدان الأوربي مطالبين بحكم ذاتي موسع و انفصال سياسي عن أوكرانيا كما كانت سابقا ,اتهم الغرب حينها موسكو بتمويل و دعم الانفصاليين في القرم الا ان الروس نفو ذلك تماما.
في 27 فبراير احتل مسلحون يرتدون ملابس روسية عسكرية البرلمان القرمي و بعض المنشات المهمة ومنها المطارات الكبرى و العسكرية حتى انتهت هذه الأحداث بالسيطرة السياسية الكاملة على مفاصل الحكم في شبه جزيرة القرم من قبل الروس الذين دعمو وصول حكومة سيرغي اكسيونوف الموالية للمصالح الروسية هناك وإجراء استفتاء شعبي حول الحالة السياسية للقرم وإعلان انفصالها عن أوكرانية و ضمها كذالك لروسيا الاتحادية في ذات العام .
أدانت حكومة كييف هذا الضم و اعتبرته اختراقا للاتفاقيات الموقعة بين البلدين و انتهاكا صارخا للمواثيق الدولية الأمر الذي أشعل أيضا فتيل الغضب الاممي حول ما أقدمت عليه روسيا وأدى ذلك إلى تعليق عضويتها في مجموعة ألثمان و عدم اعتراف الأمم المتحدة بالضم و اعتبار شبه جزيرة القرم أراض أوكرانية محتلة من روسيا .
في نهاية العام الماضي طلبت أوكرانيا بحكومتها القريبة من الغرب ضمها إلى حلف شمال الأطلسي , هذا الأمر الذي رفضته موسكو بشدة واعتبرته إعادة لسيناريو ضم دول البلطيق الثلاث بإلحاق كييف أيضا للحلف و خنق روسيا بحزام الناتو وصواريخه المنتشرة في شرق اوروبا والتسلل الى احتواء روسيا و تقويضها.
120 الف جندي روسي حشدهم بوتين على الحدود الأوكرانية ردا على هذه التصريحات و استعدادا واضحا لحرب باتت وشيكة, حشود اعتبرتها واشنطن هي الاكبر منذ انتهاء الحرب الباردة ,على النقيض تماما التصريحات الدبلوماسية من المسؤولين الروس تقول ان روسيا تجري مناورات عسكرية على الحدود لا علاقة لها بشن حرب على أوكرانيا ,وحسب ما قاله العقيد الروسي فيكتور بارانيتس محلل الشؤون العسكرية بصحيفة برافدا ان الهدف الرئيسي للولايات المتحدة الامريكية من الحرب الاعلامية ضد روسية هي إغراق أوكرانيا بالأسلحة و إحكام القبضة على القارة الأوروبية وجعلها أكثر قوة خلافا للمتطلبات الأمنية الروسية.
محاولة تفوق الولايات المتحدة المستمر في تحديث ترسانتها العسكرية و هستيريا سباق التسلح الذي أصاب واشنطن مؤخرا والتوسع المتسارع في الشرق والتطويق العسكري الذي يمارسه حلف شمال الأطلسي ضد روسيا إضافة للسلوك السياسي الذي يتبعه الغرب باستقطاب دول شرق أوروبا للانضمام للاتحاد الأوروبي , كل ذلك يشكل مفصلة أمنية لدى موسكو تتقطع أمامها كل سبل التهدئة و الثقة و تجعل من روسيا مهتمة مصابة بالهلع أمام هذه الممارسات التي اسماها بوتين غطرسة حقيقية و تهاون بقوة بموسكو , إضافة ان الهستيريا الأمنية لدى الجنرالات الروس تفاقمت اليوم عندما أصبح اقرب صاروخ باليستي تابع لحلف شمال الأطلسي يبعد مسافة 90 ميلا فقط عن اقرب مدينة روسية.
اعتبر الغرب روسيا حتى باحلك أيامها تهديدا مستمرا للدول المحاذية لها خصوصا جورجيا و أوكرانيا و دول البلطيق الثلاث التي انضمت الى حلف شمال الأطلسي بخطأ سياسي قاتل حسب تقديرات الروس, ومع ذلك أكدت واشنطن أن روسيا قادرة على غزو دول البلطيق و إعادتها خلال 60 ساعة فقط.
أزمة الجغرافيا هي احد أهم الأسباب التي تسلب النوم من أعين الروس عبر التاريخ في صراعهم مع العالم الغربي ,طبيعة الجغرافيا و الحدود لدولة روسيا الاتحادية تجعل منها دولة مهددة باستمرار وذلك بسبب عدم وجود موانع طبيعية أمام أعدائها غربا ,حيث يحيط بالروس 14 دولة من بينهم دول نووية مثل الصين و دول أخرى حليفة للغرب ,على عكس الولايات المتحدة الأمريكية التي لا يحدوها سوى الكنديين و المكسيكيين و المياه , لذلك هذا الكابوس الأمني يبقى حاضرا في عقلية جنرالاتهم وفي سلوك خططهم الإستراتيجية التي تبنى وفقا لعقيدة ايفان الرهيب الهجوم من اجل الدفاع .
من الناحية الاقتصادية تشكل الطاقة 77% من صادرات الدولة الروسية ليعتبر النفط و الغاز من أهم الموارد الاقتصادية لهم ولطالما يشكل هذا المورد العمود الفقري للاقتصاد الروسي ,لكن بالمقابل اصبح حجم هذا المورد الضخم سببا بان يكون نقطة ضعف تستخدمها واشنطن باستمرار للضغط السياسي والإطاحة بالاقتصاد الروسي عبر تخفيض أسعار النفط في أوبك كما حصل مؤخرا عام 2015 و وعام 1986 و 1998عندما أعلنت روسيا إفلاسها, هذه العوامل تستدعي قلقا اقتصاديا مستمرا خصوصا أن روسيا تعاني أيضا من شح الموانئ على المياه الدافئة بسبب تجمد معظم موانئها على مدار العام و لا يوجد لها أي منفذ بحري دافئ إلا على شواطئ البحر الأسود و الذي يعج ببوارج الولايات المتحدة الأمريكية,ضف إلى ذلك العقوبات الاقتصادية المتتالية و التي بلغت الان ذروتها بعد حزمة العقوبات البريطانية الأمريكية الأخيرة.
أوكرانيا التي تعتبرها روسيا همزة الوصل في إستراتيجية روسيا الجديدة الحالمة و بداية لميزان قوى جديد تفرضه حالة عالمية متعددة الأقطاب بدأت تتكشف معالمها خلال العشرة سنوات الماضية ,يعتبر محللون في الشأن الروسي أن أوكرانيا ثاني أهم واقوي جمهورية بعد روسيا الاتحادية جدارا استناديا عازلا بين تمدد الغرب و تقهقر الشرق لن يسمح بوتين بهدمه أمام الناتو.
يظن الروس إنهم إن وضعوا سلاحهم اليوم فسوف يتم تفكيكهم غدا و أنهم لا يملكون خيار السلام أبدا مع الغرب ,و مسالة البقاء في اشتباك مستمر مع الغرب هو بمثابة حرب وجودية لهم, لذلك من وجهة النظر الروسية إعادة نتاج الحرب الباردة والتي بدأت ضمن سياسة الخنق و المحاصرة من قبل الغرب أصبحت اليوم أكثر شراسة لتصل لمحاولة الهدم والتفكيك و الاستنزاف و التقويض ,لذلك يقول بوتن في احد المؤتمرات الصحفية بعد دخوله لجزيرة القرم عام 2014 أن الدب الروسي لو ترك حماية غابته هل يتركه أعداؤه بسلام ؟.؟.
سيناريو السياسية أو الحرب التي تتبعها واشنطن تعتبر مجرد مناورة غربية امريكية أخيرة لصد التقدم الروسي نحو أوكرانيا ,الحرب الوشيكة التي من الممكن ان يخوضها بوتين في أوكرانيا لن يستطيع احد أن يمنعه عنها ,و مسالة الجنود الذين أرسلتهم برلين و واشنطن الى الحدود الروسية إضافة الى مضادات الدروع البريطانية هي بمثابة المحاولة الأخيرة للغرب في كييف..
هذه الحرب لن تتحول الى حرب عالمية بل حتى لن تزيد من التوتر الروسي الغربي الامريكي اكثر مما هو عليه الان ,بعد خوض بوتين لحرب الزحف نحو كييف سيتاكد بايدن وحلفاؤه ان روسيا لم تعد معزولة ولن يكون العالم احادي القطب كما صرح بوتين مؤخرا ,وسيجبر الغرب و الولايات المتحدة على الاستجابة لهذا التغير ليعيدو التفكير بمسالة الاحتواء التي مارستها واشنطن على روسيا في العشرين عاما الماضية .
مسالة الزحف نحو روسيا الكبرى عبر إعادة اوكرانيا إلى الحضن الروسي يعتبر مسالة حتمية بالنسبة للروس بل يعتقد الجنرالات الروس أن أوكرانيا هي الحصن الأخير لحلم إعادة الإمبراطورية الروسية و أمجادها وخسارتها تعتبر خسارة لهدا الطموح ,لذلك يبدو أن تحذيرات جونسون المتكررة لموسكو و اللهجة الحادة التي تستعملها واشنطن بتلويحها بعصا العقوبات الاقتصادية ضد روسيا لن يجد أذانا صاغية لدى بوتين..