0020
moasem
sum
003
004
006
007
008
previous arrow
next arrow

معروف الرّصافي

بقلم: دينا بدر علاء الدين
هو معروف بن عبد الغني بن محمود الجباري، من أب كردي وأم تركمانية، ولد في بغداد عام 1875م، ونشأ فيها درس في الكتاتيب، ثم دخل المدرسة العسكرية الابتدائية فتركها نحو المدارس الدينية؛ ليدرس فيها العلوم الدينية، والأدبية، واللغوية، وتلقى العلم على أيدي علماء بغداد الأعلام، مثل الشيخ عبدالوهاب النائب، والشيخ قاسم القيسي، والشيخ قاسم البياتي، والشيخ محمود الألوسي صاحب الكتاب الشهير( بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب) وقد علمه الألوسي علوم اللغة العربية، وآدابها، وعلوم الفكر، والمنطق، ولَقَّبَهُ(الرّصافي)؛ نسبة إلى شيخ قديم معروف بالتقوى والصلاح في محلة الرصافة ببغداد.
ونظرًا لنبوغ معروف في دراسته أصبح موضع اهتمام أخواله فكانوا يقدمون له ما يحتاجه من نفقات، كان معروف كريم النفس، جوادًا، لدرجة أنه كان يخلع حذاءه من رجله ويعطيها لمن يجده بحاجة إلى حذاء, وكان كثير المواظبة على الصلاة، يمشي وعيناه في الأرض؛ لشدة ورعه، عُيّن معلمًا، ثم مدرسًا للأدب العربي، ومحررًا لجريدة سبيل الرشاد، وأصدر جريدة الأمل، وكان عضوًا في مجمع اللغة العربية في دمشق، ثم مفتشًا في مديرية المعارف ببغداد.
منعطفات وتحولات في حياة الرصافي
أما عن سبب التحول في حياة الرصافي، مِن لبس العباءة والعقال، وارتياد المساجد، إلى ارتياد المقاهي، والحانات والشرب, فقد سيطرت الفاقه على شاعرنا المثقف، مرهف الحس، واسع الإطلاع، ولم تكن حياته بمنأى عن التحولات الكبرى، فقد عاصر الحربان الأولى والثانية، وزوال السلطة العثمانية، وعاش تداعيات اتفاقية سايكس بيكو . كل هذه المنعطفات كانت كافية لأن تدخل التحولات في فكر الرصافي، وفي رؤيته، وقيمه، وحياته.
يتحدث عنه أمين الريحاني قائلا: فانضم إلى الأتراك في نهضتهم فحمل المصحف ليلًا ونهارًا، ثم وثب وثبة واحدة من المسجد إلى الحانة)
ويقول عنه عبد اللطيف شرارة: لقد انقلب في فترة وجيزة، كان ثائرا، وخاض الحياة الرسمية ووظائفها، ثم انصرف عن السياسة، لينشرَ الآراء والأفكار المتطرفة، التي تخالف المألوف حول الدين، والأيمان، والشريعة، فثارت حوله ضجة تستك لها الأسماع.
ارتحل من بغداد بعد أن سئم الحياة فيها إلى مدينة الفلوجة؛ للتفرغ للمطالعة والكتابة، فكان يمضي مدة الصباح حتى الظهر في الكتابة, وفي الليل ينعقد مجلس الشراب اليومي الذي يحضره عدد من أصدقائه، وعندما تلعب الخمرة به كل ملعب، يتحدث لأصدقائه عن أشياء كثيرة بعضها شخصي, فالخمر يزيل عنه كل المحظورات، بل يترك نفسه تأخذ حريتها كاملة، وكأنه يتحدث إلى نفسه, ومن أبرز الذين تحدثوا عنه وهو مخمورًا، خالد محمد حافظ، حيث قال: كنت بعد سماعه أرجع إلى البيت، وأبادر بتدوين ما حفظته من الذاكرة)
وهناك أحاديث رواها عنه السيد كامل الجادرجيوهو مخمورا ونلاحظ الفرق الشاسع في أحاديثه مع الجادرجي، حيث يتحدث باحتراس وذاكرة صاحية، على النقيض تمامًا في أحاديثه مع خالد محمد حافظ.
وإذا كان لهذه الذكريات من فضيلة، فلها فضيلة إظهار الرصافي على حقيقته بدون مواربة أو رتوش، دون أن يطرق على ذهنه أنها ستنشر في زمان ما، لذا جاء على ذكر الكثير من المسكوت عنه، إنها أشبه بتأريخ ما أغفله التاريخ , فجاءت لتصور عقودًا من حياة العراق الحديث، والمنطقة العربية، وحياة الرصافي.
الرّصافي شاعرًا: أشتهر الرّصافي شاعرًا أكثر من اشتهاره كاتبًا، وله ديوان في جزءين، ويعد شعره سجلًا تاريخيًا صادقًا لما كان عليه العراق، وكان الرصافي بحق من أبرع الشعراء الذين صوروا بؤس الشعب، ومآسيه، ولا يكتفي بمجرد التصوير لاستنهاض الشعب وإيقاظه من سباته، بل إنه يهيب بالجماهير كي تتطلع إلى حياة أعز ومنزلة أسمى.
سِرْ في حياتِكَ سيرَ نابِهْ ولُمِ الزمانَ ولا تُحابِهْ
وإذا حَلَلْتَ بموطنِ فاجعلْ محلّك في هِضابهْ
واخترْ لنفسك مَنزلًا تَهفو النجومُ على قِبابِهْ
فالمجدُ ليس يَنالُه إلا المُخاطِرُ في طِلابِهْ
خصائص شعره: الوصف الخارجي للشخصية، ينجح الرصافي في رسم الشخصية من الخارج، فيصورها وصفًا دقيقًا كأنه الصورة الفوتوغرافية، ملابسها، شحوبها، دموعها، ومن ذلك وصفه لليتيم في قصيدته (اليتيم في العيد)
صبيٌ صبيح الوجه أسمرُ شاحبٌ نحيف المباني أدعج العين أنزع
عليه دريسٌ يعصر اليتيم ردنه فيقطر فقرٌ من حواشيه مدقع
ويرسل من عينيه نظرة مجهشٍ وما هو بالباكي ولا العينُ تدمعع
الوصف الداخلي للشخصية: فينفذ إلى أعماق الشخصية البائسة، ويستخرج ذلك الركم من الأحاسيس المفعمة بالمرارة والكآبة، والضنك، في سياق شعوري متناغم، ونقرأ شاهدا على ذلك قصيدة( أم الطفل في مشهد الحريق)
إني تجردت من دنياي حاسرةً مالي سوى طفلي الباكي بها مالُ
أي أمريءٍ بعد هذا اليوم ذي جدة يعولني حيث لا زوجٌ ولا آلُ
أودى الحريقُ بدارٍ كنتُ أسكنها وكنت مع بعضها للقوت أكتالُ
واليوم أصبحت لا دارٌ ولا وزرٌ آوى إليه ولا عمٌّ ولا خالُ
ياربِّ قد ضقت ذرعًا بالحياة فما أدرى حنايك ربي كيف أحتال
السرد في سياق مأساوي: يبرع الرصافي في طرح المشكلات الملحة، والمؤلمة، والتي تشكل في حقيقتها مأساة الإنسانية جمعاء في صراعها مع الفقر والبؤس والمرض والتشرد والجوع, كما ويصور معاناة أولئك البائسين في قالب قصصي سردي مشوق، تتوفر فيه عناصر القصة كاملة من بداية، وتطور، ونهاية، وحل، محتفيًا بأدق التفاصيل التي تقربه من عتبة الحشو أحيانًا، والقصيدة السابقة توضح ذلك.
شاعر الحكمة: تظهر الحكمة في شعره من خلال نزعاته الفلسفية، وتحليلاته النفسية العميقة، أما العاطفة فنجدها حاضرة دائما خاصة في شعره الاجتماعي والسياسي، وتميز أسلوبه: بالتعبير الجزل، والألفاظ العذبة السهلة.
ونرى الرصافي يدعو إلى تعليم المرأة منددًا بحجب المعرفة عنها باسم الدين الإسلامي.
لقد كذَبوا على الإسلام كِذْبًا تزولُ الشُّمُّ منه مُزلزَلاتِ
أليس العلمُ في الإسلامِ فرضًا على أبنائه وعلى البناتِ؟!

الرصافي مفكرًا وكاتبًا
إرث الرصافي زاخر بالعطاء فقد ترك وراءه سبعة عشر مؤلفا، طبع بعضها وبعضها الآخر زال مخطوطًا.
له آثار في النثر/ الشعر/ اللغة/ الآداب, ومن أشهر دواوينه (ديوان الرصافي)حيث رُتب إلى أحد عشر بابًا في
الكون/ الدين/ الاجتماع/ الفلسفة/ الوصف/ الحرب/ الرثاء/ التاريخ/ السياسة/ عالم المرأة/ المقطعات الشعرية الجميلة.
ومن أقدم مؤلفاته كتابه (الرؤيا) وهي رواية كتبها الأديب التركي (نامق كمال) ونقلها الرصافي إلى العربية.
واتجه الرصافي إلى أدب الأطفال فكان لديه اهتمام بتنشئتهم تنشئه كريمة، فكتب كتابا عنوانه (الأناشيد المدرسية) وطبع هذا الكتاب ووزع على المدارس , ليتبعه كتاب ثالث بعنوان (تمائم التعليم والتربية)، كما وللرّصافي كتاب بعنوان (دفع الهُجْنة في ارتضاخ اللُّكْنة) وقد جمع فيه كلمات عربية ردها إلى أصولها في المعجم, أما الكتاب الخامس فهو (نفحُ الطِّيب في الخطابة والخطيب) وقد ألفه عندما عهدت إليه الدولة العثمانية بتدريس الخطابة العربية في مدرسة الواعظين بالأستانة, ثم وضع كتابه السادس(دروس في تاريخ آداب اللغة العربية) ويتألف من الدروس التي ألقاها على طلبته في دار المعلمين بالعراق، ولم يترك الرصافي كتابًا وقع نظره عليه إلا وقرأه، وعلق عليه مما يدل على سعة اطلاعه وعمق ثقافته، توفي الرصافي في الأعظمية عام 1945م، أما بالنسبة لمسألة زواجه فمنهم من قال أنه تزوج، ومنهم من قال أنه لم يتزوج، وأمضى سنواته لاهيًا، وصاحب قصيدة، لا شأن له بالأسرة، والزواج, وشيع بموكب مهيب سار فيه الأدباء، والأعيان ورجال الصحافة، ودفن في مقبرة الخيزران، وصلى على جنازته الشيخ حمدي الأعظمى, وشهد الصلاة عليه الشاعر وليد الأعظمى، ولقد قالوا في تأبينه قصائد كثيرة، وبُني تمجيدا له تمثالا قرب المدرسة المستنصرية الأثرية. وإليكم أعزائي من شعره من قصيدة (نزلت تجر إلى الغروب ذيولا)

نزلت تجر إلى الغروب ذيولا صفراءُ تشبه عاشقًا مَبتولا
تهتز بين يد المغيب كأنها صب تململ في الفراش عليلا
ضحكت مشارقها بوجهك بكرة وبكت مغاربها الدماء أصيلا
مذ حان في نصف النهار دلوكها هبطت تزيد على النزول نزولا
قد غادرت كبد السماء منيرة تدنو قليلا للأفول قليلا
حتى دنت نحو المغيب ووجهها كالورس حال به الضياء حيولا
وغدت بأقصى الأفق مثل عرارة عطِشت فأبدت صفرة وذبولا
غَرَبت فأبقت الشُّواظَ عَقيبها شفقا بحاشية السماء طويلا