الشيخ القرضاوي داخل زنزانة
الشيخ القرضاوي داخل زنزانة
الدكتور محمد السنجلاوي
إن من أبرز السمات التي تتصف بها الشخصية العربية، هي سمة “الإزدواجية” إلى درجة أنها قد تحولت إلى ظاهرة مقيتة، استفحلت في مجتمعاتنا العربية، مستوطنةً بشكل بارز النخب السياسية، والثقافية، والإجتماعية، والدينية…
إن مفهوم الإزدواجية يشير باختصار إلى: ذلك الشخص الذي يُصدر أقوالاً وأفكاراً، تتناقض مع أفعاله وسلوكاته، ولذا فالشخص الذي يحث على فضيلة من الفضائل، وفي الوقت نفسه يرتكب ما يتجاوز تلك الفضيلة إلى النقيض، فإنه حتماً يعاني من داء الفصام أو الإزدواجية. قال تعالى “أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم”.
ففي الوقت الذي لا نلتفت فيه إلى ازدواجية الشخصية، لدى الأفراد العاديين أو الدهماء، فإننا نلتفت كل الإلتفات، إلى تلك المواقف المتاقضة والسلوكات الصادمة، التي تصدر عن الشخصيات العامة في المجتمع، لكونها تلعب دوراً كبيراً على مسرح الحياة الغني: بتنوعه، وتعدده، وشموليته. وهذا الدور تكمن خطورته، في كونه أصبح محركاً من محركات الواقع بكآفة اتجاهاته، ومجالاته، ومساراته.
إننا قد نلتمس العذر لعدد كبير من الناس، الذين تظهر لديهم أعراض الإزدواجية، وقد نسوق ألف مبرر لتناقضاتهم الفجّة التي تندّ عنهم، كما قد نوجه لوماً شديداً لبعض النخب الثقافية، عما يبدر من أصحابها من ازدواجية في أطروحاتهم، التي طالما أشبعونا ايماناً بها على أنها ثوابت، لا تغيرها المنفعة، ولا يؤرجحها الخوف، ولا يعتور منهجيتها التزلف، ولكننا نقف مكتوفي الأيدي وألسنتنا معقودة بالدهشة، أمام ازدواجية بعض “الرموز الدينية” التي طالما حظيت بكل ألوان المهابة والإحترام والتقدير.
بالفعل استطاعت تلك الرموز، أو القامات الدينية السامقة، أن تحيط نفسها – عبر فترات زمنية طويلة ومن خلال قنوات إعلامية نافذة – بهالة مقدسة ارتقت إلى قداسة الأنبياء والمرسلين.
ولأن الفرد المسلم يتصف بعاطفة دينية جياشة، جعلته يتعامل مع تلك القامات بلغة المسلّمات والحتميات متنازلاً بطريقة لا شعورية، عن لغة العقل والمنطق التي حث عليها القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة.
وبالتالي أصبح الخطاب الديني الصادر عن تلك الرموز، خطاباً فوق النقد وفوق التفنيد، لدرجة أن الشخص الذي يحاول أن ينفذ بسهام نقده إلى حقيقة تلك الهالة، وإخضاعها إلى أحكام العقل قد يتعرض إلى الإغتيال، أو التكفير، أو قد يتعرض إنتاجه الفكري إلى الحرق والإبادة، كما حدث مع الفيلسوف العربي (ابن رشد).
فلو كان لدى هؤلاء (الظلاميين) أدنى ثقافة دينية، لأطالوا الوقوف عند قول الإمام مالك – رحمه الله – “كل كلام يؤخذ منه ويُرد إلا كلام صاحب هذا القبر” مشيراً إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم.
للأسف هذا الفريق الظلامي المخدّر عاطفياً، له حضور واضح في كل مكان، يدافع وينافح عن تلك “الهالات المقدسة”، دون علمٍ أو منهج أو دراية، لا لشيء إلا ليناله بدفاعه عنها بعض القبس، وليُخرج ذاته من دائرة (النكرة) إلى دائرة (المعرفة)، هؤلاء يحثون جميع الناس على ضرورة تقليد أصحاب الهالات، ومحاكاة طقوسهم وهيئاتهم وحتى نبرات أصواتهم، وبعد فترة من الزمن، يُصدرون أحكاماً بعيدة عن كتاب الله وسنة نبيه؛ نتيجة وقوعهم في درك التقليد الأعمى البغيض. قال تعالى “اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله”.
إنه لمن نافلة القول، بأن الوطن العربي يعج بعدد من تلك الهالات وأشباهها، ولكننا لن نتناول بهذا المقام سوى هالة واحدة، خطفت أغلب العقول والقلوب، وغطت على جميع الهالات الأخرى، فتفردت بجماهيرية واسعة النطاق، إنها هالة “شيخ الإسلام” يوسف القرضاوي.
هذا الشيخ الذي طالما دعونا الله أن يمد في عمره، وأن يمتعه بالصحة والعافية؛ لأنه كان أنموذجاً للصوت الحر، والممانع، والمعتدل، والنزيه، كنا نتابعه بشغف دون كلل أو ملل، نصفق له في كل وقت وحين، فإذا أفتى أطعنا وطبقنا، وإذا نصح ننتصح، وإذا بكى بكينا، وإذا مرض هرعنا إلى الله بالدعاء طلباً لشفائه ومعافاته. هذا ما كنا عليه وما كان عليه شيخنا القرضاوي قبل دخوله على خط كثيرٍ من ثورات “الصقيع العربي” وقبل تحوله إلى مرجعية سياسية بدلاً من الدينية.
بعد دخول الشيخ على خط الثورات، بدأت هالته تخفت بشكل تدريجي، وبدأت أعراض الإزدواجية ترشح من أعطافه، وتسيل من لسانه، فتارة يناصر شعباً في ثورته، وأخرى يصمت عن ثورة شعب آخر، يكفر طاغية ويُفتي بقتله، ويسكت عن آخر ويسير بركبه، يطلب النصرة من الأجنبي ضد نظام معين، ويحرمها ضد آخر، يناهض التطبيع وينام في أحضان المطبعين…
وظلت المواقف تتوالى حتى اختفت هالته النورانية، متحولة إلى هالة من نار، التهمت شفافيته ومصداقيته.
أيها الشيخ لن نسألك عن أموالك، ولن نقول لك: من أين لك هذا؟ ولن نسألك عن كيفية إرسال أنجالك إلى أرقى الجامعات الغربية، ومَنْ الجهة التي تكفلت بنفقاتهم؟ ولن نسألك عن ريش النعام الذي يغمر سرير نومك متسللاً بعض زغبه إلى شعر لحيتك، ولن نسألك عن القصور التي ترتادها وتنام فيها.
ولن نسألك عن عدم ايفاد شبلٍ من أشبالك إلى العراق، أو أفغانستان، أو الشيشان، أو فلسطين؛ لينضم إلى قوافل الشرف والشهادة، ولن نسألك عن عدم التحاقك بإخوانك المجاهدين لتحمل راية الجهاد قائداً لهم، ألست القدوة والَمَثل؟! لن نسألك عن .. ولن نسألك عن.. ولكنه من حقنا أن نسألك: كيف تجرأت على منبر رسول الله – في جامع عمر بن الخطاب – أن تشكر أعتى دولة امبريالية عرفها التاريخ، وأكبر دولة راعية للبلطجة الإسرائيلية، وأقذر دولة تستخدم فن الكيل بمكيالين، شكرتها على تقديمها السلاح للمقاتلين السوريين بقيمة (60) مليون دولار، للمقاتلين الذين يقتلون إخوتهم وأهلهم، ولم تكتفِ بذلك بل طالبتها بالمزيد!!
وعاتبتها على أنها لم تفعل في سورية ما فعلته في ليبيا، وطالبتها بالوقوف وقفة رجولة، وأن تقف وقفة لله وللخير والحق!!
ألا تعلم يا شيخ ما فعلته في ليبيا، وكم قتلت ومن قتلت؟! ألا تعلم أنها قامت بتقسيمها، كما تقوم الآن بتقسيم العراق؟! ألا تعلم بأنها مكَّنت لإسرائيل في الأرض، وعقدت مع تجار الأوطان صفقة، للتنازل عن الأرض ودماء الشهداء، دون أن نسمع من حنجرتك الذهبية أدنى رفضٍ أو امتعاض!! لم نشاهدك تقف وقفة لله وللخير، ولا وقفة رجولة، لفضح خطة ” أميرك وولي نعمتك”، رغم أن الصفقة مرت من تحت عمامتك!! تطلب النصرة من دولة استهترت بمقدساتنا وكرامتنا، ونهبت خيرات بلادنا، وشربت أنهار نفطنا، واغتصبت نخيل عراقنا، وهتكت أعراض نسائنا؟!!
يا شيخ يبدو أنه مازال لديك بعض من حياء، فأنت شكرت أمريكا وقصدت إسرائيل فقد طبقت المثل القائل: “إيِاك أعني واسمعي يا جارة”. لقد خجلتَ من أن تسميها، ولكنها لم تخجل من تلبية طلبك على الفور، فسرعان ما قصفت دمشق عاصمة الأمويين، هذه العاصمة التي تتعرض إلى أقذر وأخطر مؤامرة في تاريخها، حتماً أنت تعلم بذلك؛ لأنك كنت بارعاً في نسج خيوطها مع نساجي قتلة “العواصم العربية”.
تلك الغارة الإسرائيلية لم تقصف دمشق فحسب، بل قصفت معها هيبتك وجماهيرتك، تلك الغارة لم تحرق دمشق، بل حرقت ثوبك وتركتك عارياً على شواطئ أسيادك، مدارياً عورتك بالإختباء في القواعد الأمريكية على أرض “أميرك” تلك القواعد التي يقض أزيز طائراتها مضجعك في الليل والنهار، دون أن تنبس ببنة شفة!!
نحن لا نعرف هذه المرة كم دفعوا لك؟! ولكننا نعرف ما أخذوه منك، ورد في الأثر “إنك لن تصيب من دنياهم شيئاً، إلا أصابوا من دينك أفضل منه” وقد ورد على لسان سفيان الثوري – رحمه الله – “من دق لهم دواة أوبرى لهم قلماً فهو شريكهم في كل دم في المشرق والمغرب”.
لِمَ لم تهرول أيها الشيخ إلى “الإخوة الأعداء” في سورية، كما هرولت إلى أفغانستان لإنقاذ الأصنام، وتدعوهم إلى كلمة سواء، وتذكرهم بروابط الدم والعقيدة والوطن، بدلاً من حثهم على الإقتتال؟!
لِمَ لم تذكرهم بقول الإمام ابن عبد البر الأندلسي – رحمه الله – “فالصبر على طاعة الإمام الجائر أولى من الخروج عليه، لأن في منازعته والخروج عليه: استبدال الأمن بالخوف، وإراقة الدماء، وانطلاق أيدي الدهماء، وتبييت الغارات على المسلمين، والفساد في الأرض…”
لِمَ لم تذكرهم بقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – “لعله لا يكاد يعرف طائفة خرجت على ذي سلطان، إلا وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي أزالته”.
ليتك يا شيخ بقيت محافظاً على توازنك ووقارك ونقاء مواعظك، ليتك يا شيخ السلاطين والأمراء لم تتمسح ببلاطهم، ليتك تذكرت قول المصطفى “ص”: “من أتى أبواب السلاطين افتتن، وما ازداد عبد من السلطان قرباً، إلا ازداد من الله بعداً” ليتك أخذت بقول نبي الحق:”إن الله يحب الأمراء إذا خالطوا العلماء، ويمقت العلماء إذا خالطوا الأمراء، لأن العلماء إذا خالطوا الأمراء رغبوا في الدنيا، والأمراء إذا خالطوا العلماء رغبوا في الآخرة”.
ليتك فعلت كما فعل ابن تيمية، عندما أوشكت جيوش المغول أن تنقض على دمشق، لقد سارع بطلب النُّصرة من (العرب والمسلمين)، محرضاً أهل الشام وأهل مصر على الجهاد في سبيل الله، وسافر لحث السلاطين على الجهاد، وكان ذلك في شهر رمضان، ولإدراكه حساسية الموقف، فقد أفتى – بعد اجتماع الجيوش في “شقحب” أو مرج الصفر جنوب دمشق – بضرورة الإفطار، وقال بأنه خير من الصيام.
فدار على الجنود يأكل أمامهم، ليشجعهم على الأكل، ولم يكتفِ بذلك بل قاد المعركة بنفسه، حتى انتهت المعركة بانتصار المسلمين، مفوّتاً الفرصة على المغول دخول الشام، والعراق، ومصر، والحجاز.
ليتك دخلت السجن مثله، ودخلت زنزانةً مثل زنزانته وفاءً للمبادئ والدين، ليتك فعلت مثلما فعل، بدلاً من أن تصبح أسير زنزانة الشهوات والملذات وأهواء الحكام والأمراء، أسير زنزانة أعداء العروبة والإسلام.
اعلم أيها الشيخ: بأننا لا ندافع بكل ما سقناه، إلا عن سورية التاريخ والحضارة والإشراق، والمسجد الأموي، وعن أبي العلاء المعري، وعن أبي الطيب المتنبي، وعن فرات سورية، ومكتباتها العريقة، وأبجديتها، والأهم من ذلك كله لا ندافع إلا عن الشعب السوري العظيم.
m.sanjalawi@yahoo.com
الدكتور محمد السنجلاوي