من أبكى وصفي التل؟
مَنْ أبكى وصفي التل؟
الدكتور محمد السنجلاوي
إن الأحداث التي شهدتها “مدينة إربد”، جعلت جميع الأردنيين يضعون أيديهم على قلوبهم، يتحسسون وجع المأساة، وينغمسون بقراءة المستقبل بشفاهٍ مرتجفة، الجميع تمنى لو أنه قرأ ما حدث على طريقة “بريل”، كي لا تصافح عيوننا تلك البثور والندوب التي عربدت على وجه الحكمة، والتهمت عيون التبصر والبصيرة.
لقد انتهجت القوى الأمنية في تعاملها مع الحراكات التي طفت على السطح بخاصة في حقبة ما يسمى “الربيع العربي” منهجاً أشاد به الأعداء قبل الأبناء والأصدقاء، ففي الوقت الذي كانت تحلق فيه الطائرات في بعض الدول العربية، لترطب أفواه المدن والقرى والحارات بالموت الزؤام، كانت القوى الأمنية الأردنية ترطب حلق كل متظاهر بــ (كاسات الماء والعصير).
وكلما ارتفعت بعض أصوات حناجر المتظاهرين ملامِسة أعلى السقوف، ومنتهكة بكل خشونة خطوط المألوف، ازدادت قبضة الأمن نعومة، لتسجل بذلك مخالفة راقية، ضد عقلية بساطير “الصقيع العربي”.
لقد بات من المعلوم، أن القوى الأمنية قد تكبدت – وما زالت – خسائر مالية باهظة، لحماية جميع الحراكات الوطنية في جميع المدن والمحافظات، كما تحمّل رجالات الأمن ضغوطات نفسية، وأعباء جسدية لفترات طويلة، انطلاقاً من حرصهم الوطني، والديني، والإنساني؛ لتثبيت صفائح الأمن والأمان في عصر الزلازل والبراكين.
لدي عقيدة راسخة، بأن ليس كل من هو خارج (عقلية السلطة) بخائن، كما أنه ليس كل من هو (داخل السلطة) بحامي الحِمى، كما أن كل من لا يهتف ضد الفساد ولو في سره، منتهجاً بذلك طريق “أضعف الإيمان”، فإنه لن يهتف مطلقاً ضد محتل عابرٍ أو مقيم، منتهجاً بذلك طريق أصحاب الجثث، في التعبير عن حالة التلاشي بالروائح النتنة والكريهة.
إن للمندسين لغة، لا يفهمها إلا أولئك الذين يتاجرون بأوطانهم بأبخس الأثمان، فالمندسون حاذقون وماهرون في اقتناص الفرص، لنبش عش دبابير الفتن والأحقاد، ولذا من حق الأردنيين، أن يعرفوا أصحاب “الأيدي القذرة” التي من مصلحتها أن تشوه مسيرة الحراكات الوطنية النزيهة، وفي الوقت نفسه من مصلحتها أيضاً أن تلطخ الوجه الحضاري لسياسة رجالات الأمن، التي ثبتت على نهجها بالرغم من تحول السياسات الأمنية المحيطة بنا، إلى غابة من “التشوهات الحضارية” التي كان لها أكبر الأثر في اغتيال أوطانهم؛ بحجة المحافظة على “مجمع الآلهة” فوق جبال سقوط الأنظمة العربية المتهالكة.
يعد (التوقيت) الذي ظلل الأحداث الدامية، بين قوات الأمن وجموع المتظاهرين في مدينة إربد يوم الجمعة المنصرم، توقيتاً بالغ الدقة والحساسية؛ لأن الدولة تعاني على جميع الأصعدة، من أزمات حادة سواء على الصعيد السياسي، أو الاقتصادي، أو الاجتماعي، أو التعليمي.
وبالتالي جميع الساحات مأزومة، إضافة إلى أن جميع المؤشرات تدل صراحة على مقدار الخسائر العظيمة، المرتبطة قاطرتها بفتيل القنبلة السورية الموقوتة.
حتى الحراكات الوطنية، لم تنج هي الأخرى من حالة ركود، كادت تقود البعض إلى التفكير بفتح بيوت عزاء، ترحماً على أرواح الحراكات التي فشل كثيرٌ منها في عملية توحيد الصفوف، وجسر هوة الخلافات، والتنازل عن لغة الهيمنة لصالح الوطن؛ من أجل الوقوف سداً منيعاً في وجه “الفساد والمفسدين”.
ولذا فإن التوقيت لم يكن بريئاً البتة، مما يؤكد للجميع بأن ثمة أصابع خفية، أخذت وبشكل جدي تعمل على تغيير قواعد اللعبة، بعد أن فشلت جميع أساليبها السابقة في قذف “الوطن” في قلب “الصقيع العربي”.
إن كل من يسعى إلى إحلال آلة القتل والتدمير، محل (كاسات الماء والعصير) – أيا كان هذا الساعي – ليطمح بشكل واضح، إلى جعل جميع الحراكات تقفز فوق “الجغرافية”، بحجة التماهي في المطالب، وواحدية الرقعة الوطنية، لتكبر كرة الثلج أكثر وأكثر، وليكثر المندسون، سعياً منهم إلى العبث في فسيفساء الحراكات النبيلة، وتشويه هندسة تحركاتها وهتافاتها، وصولاً إلى جر البلاد إلى عتبات الجحيم.
بناءً على ما سبق، فإن الشعب الأردني، يهيب بجميع أصحاب “القبضة الأمنية” أن يفوّتوا على أصحاب “الأيدي القذرة” لعبتهم المقدسة، من خلال الحرص والتأكيد على سياسة (الأمن الناعم) في التعامل مع الحراكات الوطنية النزيهة، التي باتت تشكل (ضمير) الوطن الحي.
فلو كان للقبضة الخشنة أدنى جدوى لما تدحرجت (مصر) في قلب الفوضى، ولما رقصت (ليبيا) في محافل التقسيم، ولما فُشِّلتْ (سورية) بمطارق الخيانة والتدويل.
ولأن الشعب على ثقة كبيرة، بأجهزته الأمنية الرصينة، فهو يعلم بأن تلك الأجهزة لن تتوانى عن تقديم كل من يثبت تورطه في (أحداث إربد) إلى (القضاء الأردني النزيه) مهما علت رتبته في أي جهاز أمني ينتمي إليه، أو أي حراكٍ أو جماعة أو حزب تمرس على يديه.
إلى كل من ينتهج سياسة إبكاء المدن الأردنية نقول:
عندما تبكي مدينة إربد، فإننا نحتاج إلى مئات المناديل كي نجفف دموعها ولكن عندما يبكي الوطن، فإنها تبكي المناديل.
m.sanjalawi@yahoo.com
الدكتور محمد السنجلاوي