ليتهم لا يُغادرون
ليتهم لا يُغادرون / محمد بدر
كالبرق يخرج فجأةً من سحاب ملبّد قد اشتدّ سواده فيملأ الآفاق نورا وضياء ، إلا أنه لا يلبث أن يختفي مسرعاً وكأنّه يعتذر عن لقاءٍ لم يتم أو فرحٍ لم يكتمل . واعدا بلقاءٍ جديد ذات شتاءٍ قادم . وسرعة القدوم كسرعة المغادرة ، تهيّؤنا لفكرة أن الحياة قصيرةٌ وان طالت . وأنّ من حضر لابدّ أن يُغادر مهما أقام .
أو كشربة ماء بارد في يوم رَمضانيّ قائظ ، إذا شربت فانّك تكتفي ولكن لا ترتوي ، تشتاق للمزيد ، ولكنّ قوانين البيولوجيا لا تمنحك ما تُريد . فلا الاكتفاء تم ولا الرّغبة أُشبعت . حتى يبقى الشوق والرّغبة دائمةً ومتجدّدة . فالأمل هو أكسير الحياة ، وجوده يُنعشها ، يقوّيها .
أو كسورة الضحى ، حين تجتمع عليك هموم الدنيا ، تلجأ إليها فتجد السلوى والنجوى واليد الحانية تمسح على القلب والصدر والرّوح ، وكأنّ شيئا لم يكن . فتوقن بأنّ الله معك لم يودعك ولن يتركك تتقاذفك الأنواء والخطوب . فمن معه الخالق ، فما له وللمخلوق . ومن كان برعاية الكبير فما له وللصّغار . وهل يملك المخلوق من أمره شيئاً حتى يفعل لغيره نفعاً أو ضرّاً أو إعاقة .
أو كسرابٍ في صيف صحراوي ، يبعث الأمل في النفس بمرغوبٍ مطلوب ، يُنعشها ويُحييها بقرب الوصول والحصول ، وتبقى تلهث خلفه دون أن تُحصّله ويبقى الأمل حتى توقن بأن ما عند الله خيرٌ وأبقى . فيناديكَ صوتٌ من الأعماق يُذكّرك أنه ” فإذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله ” . وكي تعلم بأنّ ما أصابكَ لم يكن ليُخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك . فوجد الحاضر الذي لا يغيب والموجود الذي لا يُفقد . وَوَجد اللهَ عندهُ فوفّاهُ حسابه والله سريع الحساب .
أو كأمير الأحلام وصاحب الظلّ الطويل القادر على صنع المعجزات وتحقيق الأحلام ، يظهر عند كل موقف فاصل أو مشكلة عويصة ليساعدنا في حلها بطريقة لم تكن تخطر لنا على بال ، وبعد أن يطمئنّ أن كل أحوالنا على ما يُرام وفي أحسن حال يُغادر مختفياً واعدا بالرجوع .
هؤلاء هم الرائعون في حياتنا وعوالمنا . إنهم بهجة الحياة وزينة الدنيا وشقائق الروح وتوائم النّفس . جاؤا دون طلب وغادروا بلا ضجّةٍ أو عتب . فهم مصرّون أن نبقى نحمل لهم أجمل ذكرى . وكأنّهم حتى وهم يُغادرون لا يريدون أن يتسبّبوا لنا بأيّ ألم . فليتهم يعلمون أنّ ألمنا بمغادرتهم زادنا لهم حبّا .
هؤلاء الذين لا تحلو الحياة إلا بهم . فقد نسجنا خيوط آمالنا وأحلامنا معاً ، وشيّدنا هياكل مستقبلنا معاً ، وتقاسمنا تفاصيل حياتنا معهم ، وبكينا آلامنا وخيباتنا معاً .
هؤلاء الذين اقتربنا منهم أكثر ممّا ينبغي ( ربّما ) ، فالاقتراب احتراق . فأصبح من الصّعب علينا تصوّر الحياة وهي تخلو منهم . فقد كانوا أجملَ وأحنَّ وأروع بكثيرٍ ممّا كنّا نظن ، فلم يخذلونا يوماً . غادروا وليتهم ما فعلوا لو استطاعوا . فنحن ( للأسف ) لا ندرك قيمة وأهمّية الأشياء إلا بعد أن نفقدها . فكم كنّا نحبّهم .