0020
moasem
sum
003
004
006
007
008
previous arrow
next arrow

للزواج حاجات أخرى


عندما انشقَّ الباب،ودخلت على النسوة في المجلس الكبير، شعر الجميع بأن المجلس قد أضاء، وكأنه كان من قبل ذلك معتماً،وتسمَّرت أعينُ النِّسوة صوب الباب،ولم ترمش إحداهنَّ، بينما يجمعن في ملء أعينهن، بهاء الداخلة إليهن،كأنها غصنٌ غضٌ رقيقُ، يتمايل كلما مسته ريحٌ ناعمة، كانت في مشيتها تتهادى، كمن يسير بين نيامٍ، يخشى بأن يوقظهم بحسيس قدميه.

 

 لم ترتفع الأعين المحدِّقة عن قوامها، إلا لتحصد المفاجأة في طلعة وجهها،فهناك ثمة عينان واسعتان صافيتان استقرتا في محجر أشد بياضا وصفاء،ربما ضاق على اتساعه لاتساعهما، فيهما حدقتان خضراوان يشتبك الأخضر فيهما بلون عسلي هادئ،فيبدد كل لون منهما سطوة الآخر، ويثيران العجب بامتزاجهما معا، ويعلوهما حاجبان دقيقان، كأنهما قوسين قد أغلقا على كل ما قيل في الحسن،وجبين يمنع اتساعه خصلة شعر بنية قد تخللها شعرات ذهبية،ليجتمع هذا كله فوق خدين غضَين تشوبهما حمرة رقيقةٌ زاهيةٌ،ويرتفعان حذو أنف دقيق فيه انكسار، لايستمر حتى يرتفع في آخره بخنس ظاهر، فيعلو فوق ثغرٍ كأنه مرسومٌ بقلم دقيق، وقد حددت كل حوافه، ومضمخ بصبغ قرمزي باهت، تجذر في أصله، فلا يحتاج الى صبغ وردي ولا كرزي،وإن انفرج بتبسم فهناك بريق اللؤلؤ، المستخرج توا من صدف الأعماق الطازج،فترى كل شيء طازجا في روعته، وكأنما خلقت حسب شهوتها.

ما أن دخلت الباب تتثنى، الى أن جلست حتى ساد صمتٌ! فالأعين مشغولة مذهولة تتفحص ماترى من بديع الحسن..
اكتنفها عندئذٍ خجل جلَّلها، بالكثير من البهاء، عندما زادت حمرة خديها،وزاولت عيناها الإنكسار،وهمت بوشاحها المرخى، لتجمعه فتغطي به بهاء وجهها، لولا أن تذكرت بأن من يحيط بها نسوة من جنسها فأحجمت..
قالت إحداهن لجارتها هامسة:محظوظٌ ومبتلى من يحوز هذي الجوهرة..
فأجابتها الاخرى بهمس: إنها لا تقبل بأحد ولا يملؤ عينها أبيض ولا أسمر!..

كانت هي تعلم جيدا شدة فتنتها،وأثرها على الرجال،بل وعلى النساء أيضاً،فقلما رأتها امرأة مسنَّةٌ أو شابة، او متأرجحة بين الشباب والكهولة ثم لم تعرض عليها الزواج من قريب لها،وبعضهن كن يخشين سماع موافقتها،حتى لا تصبح فرداً من العائلة ويراها زوجها،فيزهد فيها،وبعضهن كن يسعين بجد لإقناعها ويتبعن في ذلك وسائل الترغيب،ويطرحن كل احتمالات الترهيب من العنوسة والوحدة،والترهيب من الأيام التي تتسارع، في قضم حبل العمر، وتقضي على الشباب،ولكن ثمة راحةٌ تتسلل الى نفوسهن لا يعلمن كنهها، عندما تصرُّ على الرَّفض.

 إحداهن فسرت تلك الراحة بأنها الغيرة التي جبلت عليها المرأة،وقالت كيف لا تغار امرأة من ملاك كهذا.
لم يجبرها أبوها على الزواج، وترك الخيار لها،فهو أيضا لا يرى في الرجال كفؤاً لها، وكان يعجبه تعظيم الناس له، فالكل يطمع برضاه، وكثيرا ما كان يقبل الى مجلس فيتراكض الجميع لاستقباله، ويفسحون المجلس حتى يتوسطه، كأنه مَلِكٌ متوَّج، لهذا فثمة حاجة في نفسه تدفعه لعدم الضغط عليها لتقبل برجل! أي رجل! من الممكن أن ينهي كل الحفاوة، التي يحظى بها من الناس،إذا يأس الرجال منها بزواجها.

لم تحاول هي أيضا يوما ما، أن تمنح رجلا أملاً بوصلٍ، من أي نوع،وكم قطع الرجال حديثهم وصمتوا إذا مرت،وكم نسي أصحاب الحاجات حاجاتهم، وراوغوا جيئة وذهابا عندما يرونها مقبلة، وكم استدار كثير منهم ليملأ عينيه،من بهائها حتى يملأه غمٌ لاستحالة وصوله إليها فيشيح ، فتبقى مهيمنة على خاطره وفؤاده،  وكم بات الخليُّ منهم مدنفاً، قد غلبه السُّهد، إن نظرت إليه ببعض نظرة عارضة، من غير قصد، فأوَّلها كل تأويل، وذهبت بها نفسه في كل مذهب.

.

سارت الأيام بطيئة،ووالدها ما زال يتمهل في تزويجها،حتى لا يفقد حُظْوَتَهُ،(ومثلها في النساء لا تبور فماذا لو تعدت الثلاثين، فلابد أن يبقى الخاطبون أسرابا يتوافدون،فكل يائس مع المثابرة قد يحظى بقبول،وكم تعلم رجال الإقدام والصبر رجالٌ وهم يواصلون السعي اليها،وطلب الشفاعات لديها لعل أحدهم أن يفوز بقبولها، ولكن دون جدوى، فقد امتد رفضها للزواج على مساحة الأيام والأعوام حتى بلغت الخمسين،وما زالت أثار فتنتها بادية، فلم يخبو شيء من ألقها،وإن كان عداد السنين يبدل الأرقام على طلعتها، صعودا وهبوطا،إلا أن حسنها يغالبه، ولكن ما من مخمن قد يقدر سنها تحت الأربعين، وللزواج حاجات أخرى تتعدى الجمال الأخاذ..

ما عاد يطرق الباب أحد، وما عاد أبوها يحظى بتلك المكانة، وما عادت النساء يسألنها عن رغبتها بالزواج بقريب او بعيد،وكل اللاتي أفسدت أعراسهن بحضورها،دعونها بعد ذلك عندما زوجن أولادهن،وثمة شامتات تقلب بعضهن كفيها تحسرا عليها ظاهرا، والشماتة تتراقص في داخلها فرحا على ما أصابها،وكل الحاسدات اعترفن أخيرا بأن الحسن قد يكون نقمة، خلافا لما تفوهن به قبل سنوات بعيدة.
ذات يوم أعلنت بطريقة نسائية،وبرغم أنها أرفقت”الاعلان” بإيحاء لا يحتمل التأويل ولكن جعلته كلاما عاما فقد تحوطت لإمكانية نفي الخبر، والادعاء بأنه شائعة إذا ما استغله الشامتون، فقالت فقط :إن الزواج شيء لازم للمرأة!..

ولم يطرق الباب أحد،ولم يحاول أحد الإتصال لأخذ موعد ليراها، ومرت شهور والصمت والسكون هو الأمر الوحيد الحاضر في يومياتها..

وذات يوم طرقت الباب امرأة في الأربعين،وذكرت لأمها العجوز :بأنها جاءت خاطبة بعد أن أرشدها،أصدقاء لها إلى هذا البيت، وعندما حضرت الحسناء،لم تخف الخاطبة اعجابها الشديد،ودار حديث في نفسها لم تصرح به:كيف لمثل هذه ألا تتزوج حتى بلغت الخمسين؟!.
استجمعت رشدها مرة أخرى، وعادت تسهب في ذكر ما روي لها من محاسن العروس وأهلها،وأنها تطمع في قبولها، بعد أن أطمأنت لها،فهي تعرف الطيب والشرير من أول نظرة، وقد ادعت بأنها مشهورة بصدق حدسها في هذا المجال.
لم تلبث الحسناء حتى سألتها،ومن هو الخاطب وما درجة قرابتها منه؟ وكم عمره؟ 
ترددت الخاطبة قليلا وتلعثمت،ثم قالت لا ليس كبيرا جدا في السن، كل من يراه لا يخمن عمره الحقيقي بل إنه يبدو أصغر من عمره بعشرين سنة! عندها اشتدت الحسناء في السؤال: وكم عمره؟!!

لم تنطق المرأة بشيء، ومدَّت يدها بانشغال الى حقيبتها، وأخرجت صورة ووضعتها في يدها، ثم قالت وإصبعها على الصوة:بالله عليكِ من يرى هذا الرجل هل يصدق أنه في الثمانين ؟!.!.