والفجر
إذا كان أحدنا لا يُقسم إلا بعظيم وعلى أمرٍ عظيم ، فكيف بالخالق سبحانه ، الذي ينحني لعظمته كل العظماء . فما دام أقسم بشيء ، فلعظمةٍ فيه يريد أن يلفتنا إليها .
والفجر هو أول النهار وفاتحة الأعمال ، حيث الهمّة وصفاء الذهن والتخفف من بهارج الدنيا وما يشدك فيها إلى الأرض ونعيمها الزائف وراحتها المؤقتة . فكل ما يُحيط بك يساعدك على الإنجاز والإخلاص والإبداع ، الهدوء وخفوت الأضواء والأصوات وقلّة أعداد الناس وخمود الحركة ، ناهيك عن الأجواء الروحانية ، حيث كل شيء يُذكّرك بالخالق وعظمته ، ويُشعرك بالقرب منه والعلاقة الحميمة التي تربطك به .
وللأوائل من الأشياء قيمة خاصة في حياتنا وذكريات لا تمحوها الأيام ولا الأحداث . فالطفولة المبكرة حيث التعثّر والتلعثم ، والكلمات الناقصة والضحكة الخارجة من كل القلب والشعور بحب الجميع وخوفهم وحرصهم ، هذه المشاعر الصادقة التي لا كذب ولا تمثيل فيها ، والتي قد تتغير مع الزمان فتتحول من النقيض إلى النقيض .
وأصدقاء الطفولة ، وأول جيران ، لهم مكانة خاصة تبقى لهم ، نحملها في النفس ذكريات وحنين ، فهم كل عالم الطفل ومصدر معارفه واكتشافه وفهمه للحياة والناس ، وهم أول معارفه ، رسم ملامحهم في ذاكرته ووجدانه .
والأبن الأول ، ويسمونه البكر ، فهو أول ثمار علاقة طاهرة سامية بين الأب والأم ، وأول عضو في هذه الأسرة الجديدة والتي نشأت بإدارة الله وباسمه وعلى عينه . لهذا الأبن منزلة ومكانة لا يُنازعه فيها أحد من باقي العائلة ، فهو أول دعامة لأستمرار واستقرار هذه الأسرة ونمائها ، وحصانة بعد إرادة الله لعاديات الزمان وتقلبات الحياة .
وكذا ، البيت الأول ، حيث الحارة الأولى والجيران الأوائل . أصدقاء الطفولة واللعب . ورغم التواجد المستمر معا في المدرسة ، إلا إن صحبة الحارة واللعب معا شيءٌ آخر ، يستنفذ معظم الوقت . أما علاقة الجيران ، فهم إلى الأهل أقرب ، بينهم تعاون وعلاقة وثيقة اجتماعيا واقتصاديا ووجدانيا . فبيت أي أحدٍ من الجيران هو بيتٌ للجميع ، فكل رجال الحارة هم أعمام أو أخوال وكل نساؤها هنّ خالات أو عمّات .
أما الحب الأول ، فهو حكاية أُخرى ، حيث البراءة والطهارة والعفّة . يبدأ مع تفتّح العين على ” الرجولة ” . وهو إلى الخيالات والتهيّؤات والقصص والروايات والأفلام أقرب . وهو غالبا من طرف واحد أو بوسائل وطرائق طفولية . هذا النوع من العلاقة يكون مثارا للتندّر والضحك بعد سنوات لما فيه من براءة وسذاجة وحمق أيضاً . ونظرا لأهمية وبراءة البيت الأول والحب الأول في تشكيل حياة الأنسان فقد جمعهما الشاعر معا بقوله :
نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى *** ما الحب إلا للحبيب الأولِ
كم منزلٍ للمرء يألفه الفتى *** وحنينه أبداً لأول منزل ِ
ما زلنا في أوائل الأشياء وأهميتها في حياتنا وذكرياتنا ، وأولها الفجر ، حيث الناس قسمان ، الأول : أصحاب الهمم العالية ، الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ، يدعون الله ويتضرعون إليه ويتقربون بسائر القُرُبات ، التي من رحمته أنْ جعلها كثيرة ومتنوعة ، يختار كل إنسان منها ما يستطيع وما يتوافق مع ميوله ، وكلٌّ أدرى بما يُصلحه وما يصلح له . والثاني : الذين بينهم وبين الفراش علاقة مغناطيسية وعشقٌ أبدي ، تجذبهم إليها كلما حاولوا التقلّب أو الإنعتاق . ويستمرون على هذا الحال إلى طلوع الشمس أو قبلها بقليل .
وقد عرف الأعداء هذه الميزة للفجر وقبيل انبلاجة ، فكانوا يبدأون حروبهم العدوانية على المسلمين في مثل هذه الأوقات . يأخذونهم على حين غرة ، وهم بها أجدر .
حقا إن للفجر نفحات ، لا يعرفها إلا من ذاقها وجرّبها وعرفها ، ومن لم يتعرّض لنفحات الفجر ، فقد فقد وضاع منه خيرا ومغنماً كثيرا .