على نفسها جنت أوروبا
عندما كانوا يقولون بأن العالم أصبح وكأنه قرية صغيرة ، كان معظم قصدهم واهتمامهم ينصبّ على التطور الهائل والسريع في وسائل الإتصال صوتاً وصورة ، فأي حدث يقع في أي منطقة في العالم ، تستطيع مشاهدته ومتابعته بالتفاصيل وقت حدوثه بالضبط وأنت جالس في بيتك . فهذه الوسائل لا توقفها الحدود ولا تخضع للجمارك ، ولا تعيقها المحيطات والبحار والجبال والغابات .
وربما تناسوا أو تجاهلوا ، أن الذي ينتقل ليس المعلومة المجردة فقط ، بل مجمل الأحداث بتداعياتها وما يمكن أن تُحدثه من ردود أفعال . ففقر منطقة وضيق العيش فيها ، أو صعوبة الحياة للإنسان كالخوف والجوع والمرض والظلم والقتل ، كلها ستنتقل من مكانها إلى أي مكان آخر ، وسيتأثرالجميع بها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة وقد يكتوي بنارها ، وتسبب له الإزعاج فيسعى لتقليل خسائرة بايجاد مخرج أو حل .
زمان ، كانت أوروبا ، تخلق أزمات وتفتعل مشاكل ، في أماكن تظن أنها بعيدة عنها ، ثم تعود لتتابع حياتها وتنعم بالراحة والهدوء والإطمئنان ، وكأن شيئا لم يكن . بل ويجلس ساستها يُتابعون ويتفرجون على ما صنعته أيديهم ، ينتظرون النتيجة كي يتقدموا ويقطفوا الثمرة أو يحصلوا على النتيجة التي كانوا يتوقعونها أصلا ، دون أن يرف لهم جفن ، أو تتلطخ أيديهم أو تتأثر حياتهم وطريقة معيشتهم .
وكأنهم يُطبقون قول الشاعر الذي قال :
أنام ملء جفوني عن شواردها **** ويسهر الخلق جرّاها و يختصم
وقد يتقدومون بعد أن تكون قد أُنهكت الأطراف ، ولم يعد هناك ما تربحه أو تخسره ، قد تتقدم بحلول أو محاولة وساطة ، وفي بعض الحالات مساعدات إنسانية ، لا تسمن ولا تُغني من جوع ، مع كثير من استعمال الإعلام والإكثار من التصريحات التي تُظهرهم أكثر تحضّراً وإنسانية ورقّة .
لقد ولّى هذا الزمن . ولم يعد بإمكان أحد أن يجلس ويكتفي بالمراقبة والمتابعة . فالحرائق التي تبدأ في منطقة ستنتقل سريعا وتنتشر ليصل شررها وحرها إلى أماكن بعيدة . كما أن البشر المتضررين ، لن يجلسوا وينتظروا مصيرهم وموتهم البطيء أو السريع ، سيّما أن بعض هذه النزاعات والمشاكل تُخلّف ويلات ومصائب ، بعد أن تطورت وسائل النزاع وأدواته ، فأنتجت دمارا هائلا وقتلى وجرحى بأعداد كبيرة ، فضلا عن انعدام حد أدنى لمتطلبات الحياة .
هاهي أوروبا بدأت تولول بعد أن اجتاحتها موجات بشرية طلبا للنجاة والأمن والعيش الكريم . وها هم ساستها يعقدون الإجتماعات والمؤتمرات ويظهرون على وسائل الإعلام ، وقد أُسقط في أيديهم ، والعالم يُتابع ويُشاهد بثاً مباشراً ، فهل بإمكانهم الإستمرار في سياسة إغلاق العينيْن والأذنيْن عمّا يجري في العالم . لقد أصبح الغرب مضطرا للتعامل مع هذه المشكلة بل المصيبة ، مكرهٌ لا بطل ، محاولين تقليل الخسائر إلى أدنى حد وتعظيم الفائدة إلى أعلى حد .
لقد كان بإمكان أوروبا وحلفائها التعامل مع هذه المشكلة منذ بداياتها ، بشكل أفضل ، يضمن سلامة المدنيين ومنع تعريضهم للويلات والمجازر ، باتخاذ مواقف حاسمة تخلو من الميوعة ، بعمل مناطق آمنة للمدنيين تتوفر فيها وسائل الحياة المعقولة ، والوقوف بوجه سياسة التدمير الشامل للمدن ومنع استعمال اسلحة دمار فتاكة ضد المناطق المدنية . ولكنها تقاعست وغضّت الطرف عن كل التجاوزات والمجازر ، واكتفت بالمواقف الإعلامية وبعض المساعدات الإنسانية ، فجاء الوقت لتدفع ثمن هذا التقاعس والسكوت ، بموجات من الهجرات لها أول وليس لها آخر مع ما يرافق ذلك من مصائب وويلات وخسائر بشرية أثناء محاولة المهاجرين النجاة .
لقد كان موقف الدول المحيطة بسوريا خاصة الأردن ، أكثر تحضّرا وإنسانية ، فقام الأردن بفتح حدوده واستقبال الفارين من ويلات المعارك ، وبأعداد ضخمة ووفرت لهم المأوى ومتطلبات الحياة الأخرى الصحية والتعليمية والإغاثية والمعاملة الأخوية الإنسانية اللائقة ، رغم الأوضاع الإقتصادية الصعبة وشح الموارد ، إلا أنه قام بما لم تقم به دول أوروبا الأغنى والأكبر ، دون منّة أو ضجيج إعلامي أو انتظار شكر .
ولكن هذه الموجة من هجرة السوريين والتي توجهت إلى أوروبا ، وهذا يعني رغبة في إقامة دائمة هناك ، يغلب عليها العنصر الشاب ، وهم يدفعون مقابل نقلهم وتهريبهم وايصالهم مبالغ طائلة وبالعملة الصعبة ، ممّا يُثير أسئلة وعلامات استفهام كبيرة . فهل تعيش سوريا الآن الفصول الأخيرة لمؤامرة تفريغها ، وإن كان ذلك كذلك ، فمن يُشجّع ، ومن يُسهّل ومن يُموّل ؟ وما هي النتائج المراد الوصول إليها ؟ وهل أوروبا شريكة أم ضحية ؟ الأيام كفيلة بفك كثير من الطلاسم والألغاز وتفسير مواقف مختلف الأطراف في الأزمة السورية ، والتي كان الشعب السوري الصابر أول وأكبر ضحاياها ، ثم الدول المحيطة والتي تحمّلت أكثر من طاقتها في حين كانت أوروبا والعالم يتفرج ، وجاء دورها لتنال نصيبها .