هل هي بداية أفول أردوغان
اقتضت سنّة الكون أنّ منحنى الحضارات والأمم والأفراد يبدأ بالصعود حتى يصل أعلى قمّة يمكنه الوصول إليها ، ثم يبدأ هذا المنحنى بالهبوط . وقد يكون الصعود سريعا أو متدرجاً وكذا الهبوط . وقد علمتنا الحياة أنّ للصعود حلاوة وانبهاراً وللهبوط استحقاقاته أيضا ، ولكن وفي الحاليْن يجب عدم المبالغة في الفرح أو الحزن ، فالأيام دول ، ودوام الحال من المحال .
لم يكن أردوغان بدعاً من البشر ، فينطبق عليه ما يحدث لهم . فقد بدأ نجمه بالصعود ، ولكل مجتهد نصيب . وقد جمع أردوغان مجموعة من الصفات الشخصية والموضوعية التي تؤهله ليكون قائداً . ليس أولها الذكاء وقربه من الناس وشعوره معهم ، خاصة الطبقة المتوسطة والبسيطة ، وكذا مقدرة فائقة على مخاطبة الجماهير وتحريك مشاعرهم ، مع وجود رؤية واضحة وخطة محكمة لما يريد تحقيقه والمأمول الوصول إليه .
أحبته الجماهير وقد رأت صدقه وشفافيته ونزاهته وعدالته ، واستطاع أن يجمع حوله مجموعة كبيرة ممّن آمنوا بأفكاره وسعوا لتطبيقها ، فشقّ حزبه ، حزب العدالة والتنمية طريقه وسط غابة من الأحزاب التركية العريقة ، والزعماء التاريخيين ، واستطاع بعد فترة ليست طويلة ولكنها مملوءة بالجهد والتضحية والقرب من الناس وخدمتهم من التفوّق على كل هذه الأحزاب والزعماء والتي أصبح بعضها أثراً بعد عين واختفت من الحياة السياسية .
نقل أردوغان وحزبه تركيا خلال فترة وجيزة نقلة كبيرة ، شعر بها المواطن التركي ، وشهد بها الصديق والعدو ، وكانت نهضة شاملة في كل الميادين ، ولعل أهمها إقصاء العسكر عن السياسة ليتفرغوا لدورهم . وكذلك البدء في تطبيق حل سياسي مع الأكراد أحد مكونات الشعب التركي الهامة والذي كان محظور عليهم كل شيء تقريبا ، فلجأوا للثورات المسلحة والعنف . فكانت مشاركتهم في الانتخابات الأخيرة مؤثرة في نتائجها .
ومع كل تلك الإنجازات فإن أردوغان ارتكب مجموعة من الأخطاء بعضها كبير وأُخرى أقل . فعندما رشّح نفسه للرئاسة وهو في تركيا موقع شرفي برتوكولي ، إلا أن أردوغان كان يخطط ليجعل موقع الرئاسة أهم موقع في الدولة التركية ، يجمع في يده سلطات كثيرة على حساب رئاسة الوزراء ومجلس الوزراء وممثلي الشعب . وهذا يحتاج لتعديل دستوري لن يستطيعه إلا إذا حصل على نسبة مريحة في البرلمان تمكنه من ذلك ، فحرمه الشعب التركي ذلك بل وجعله غير قادر على تشكيل حكومة بمفرده وعليه السعي لتشكيل ائتلاف مع حزب أو أكثر ، على ما في هذه الائتلافات من تنازل من جميع الأطراف للوصول إلى حلول وسط . وكانت الثانية الحرجة وهي أنه بدأ معركة مع الدولة العميقة قبيل فترة الانتخابات مع ما تمثله من ثقل وامتدادات في الإعلام والتعليم والقضاء والشرطة ومؤسسات الدولة برعاية فتح الله جولن وجماعته الذي كان يتحالف معه في الانتخابات السابقة .
بعد انتهاء فترة رئاسة عبد الله غول أحد الزعماء التاريخيين لحزب العدالة والتنمية ( والذي له مواقف رجولية مع أردوغان ) ، كان يُتوقع أن يُسند له دور في الحزب فيكون رئيسه أو رئيسا للحكومة ، إلا أن أردوغان تجاهل الرجل بل وعمد إلى شخصية محترمة أُخرى إلا أنها ضعيفة ، تعيش تحت ظل أردوغان ويتصرف وفق توجهاته ، وبذلك يكون أردوغان هو الرئيس ورئيس الوزراء بالوكالة ..
أظن أن أردوغان قد وصلته الرسالة القاسية والغاضبة التي أرادها الشعب ووعيها جيدا ، وأظنه من الذكاء والخبرة والعزم ليقف طويلاً عند أسباب الخلل التي أدّت لهذا التراجع غير المتوقع ، وستبدأ فترة مراجعات قاسية في مؤسسة الرئاسة وداخل الحزب وسياساته ، فإن فعل فسيكون له أكثر من مخرج ليقف مرة أُخرى ويعد الشعب التركي ويطمئنه ويُجري تغييرات في قيادات الحزب ويُغيّر في طريقة اختيار المرشحين للنيابة والتي حرمت الوجوه المعروفة بالكفاءة والذي حرمهم النظام الذي لا يسمح بالترشح لأكثر من ثلاث دورات ، بحيث يمكن أن يكون هناك استثناء للعناصر الجيدة والتي لها ثقل شعبي وعملي .
وللشامتين فإن حزب أردوغان ما زال في المقدمة وهو الخيار الأول للشعب التركي مع فارق كبير بينه وبين من حصل على المكانة الثانية . وهذه النتيجة لن تكسر أردوغان إن أحسن التعامل مع مخرجاتها جيداّ .
وبقي أن نقول لقد ترسّخ في تركيا كما في دول العالم المتقدم بأن الديمقراطية هي الحل وذلك لا يكون إلا بتداول السلطة سلميا وذلك عن طريق الصناديق وإرادة الشعب في انتخابات حرة ونزيهة وغير مفصّلة على مقاس أحد ، وأن الانقلابات العسكرية لن تكون الوسيلة للوصول للسلطة ، فالجيش له الاحترام والتقدير عندما يؤدي دوره المحدد بالدستور ويترك السياسة للأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني والشعب .