جريمة رفع بشعة خادشة للكرامة والحياء
جريمة رفع بشعة خادشة للكرامة والحياء
الدكتور محمد السنجلاوي
وأخيراً أطفأ الشعب الأردني فوانيس توقعاته، فقد حُسم الجدل، وقُضي الأمر، وانتهت كل برامج (حزَّر … فزَّر)، فها هو دولة الرئيس (د.عبدالله الرافع) يطل علينا من جديد، وهو يرتدي عباءة الولاية الثانية، مقتحماً بخيول نصره، بوابات المشاهد السياسية، والإقتصادية، والتنموية المعتمة، بين يدي شعب لم يعد يمتلك – بعد أن تم تجريده من كل شيء – سوى الذهول والدهشة “المستدامة”.
قبل أسابيع شيَّع الأردنيون، بقلوب دامية المرحومة “نزيهة”، التي رحلت إلى غير رجعة، رغم جميع محاولات أصحاب القبضة الشفافة، وأطباء الوطن المعتل، الإبقاء على حياتها وهي شامخة الرأس ورضيّة النفس.
أجل رحلت “نزيهة” وظلت أخواتها (نظيفة، وطاهرة، وشفافة، وأمانة، ونزاهة…) ينتظرن المصير نفسه، تابوت تلو التابوت، والقاتل حي لا يموت (وذلك بالطبع حسب اعتقاده).
أرادوها حكومة برلمانية، وبالفعل جرت مشاورات (ليلية ونهارية) مع كتل برلمانية، عدد كبير من أعضائها، لولا رحيل “نزيهة” لما رأينا في أيديهم إبراً تحت القبة، تتحفز لتخيط لنا في “ليلة دامسة” أثواب التشريع.
تلك المشاورات – التي أجريت لاختيار رئيس وزراء جديد – برهنت لجميع المتابعين والمحللين، على أنها كانت تدور مع “كتل” هشة، لا تقف على أرضية أيديولوجية ناظمة لها، بل كانت تقف على أرض رخوة، تفوح منها رائحة قلة الخبرة، رائحة المصالح، ورائحة التبعية العمياء التي زكمت الأنوف، وخذلت عشرات الألوف من الجولة الأولى.
فمع أول (بَعّْ) تشاوري انفرط عقدها، وتناحر أعضاؤها على وقع مطرقة الخوف، ومطرقة المصالح، وبالتالي تم اختراق تلك الكتل بكل سهولة ويسر، دون أن نغفل بالذكر تصريحات المُخترِقين الدائمة: بأن ما جرى ويجري، لم ولن يفلت من “قبضة الشفافية”.
وعندما ضج الشارع الأردني بالأسى والغضب، من الأداء المترهل وغير الناضج، لعدد كبير من أولئك الذين يمثلون صوت الشعب وضميره الحي، تحول أغلبهم إلى ظواهر صوتية، وإلى ممثلي أندية “كمال أجسام” يستعرضون بعضلاتهم أمام ناخبيهم، وإلى ممثلي كابوي بمسدسات (الفزعة والشهامة والخاوة…) إنّ المفارقة التي احتضنت المشهد هي أن بعضهم كان يحارب بشراسة تحت القبة، وفي الوقت نفسه ما زال صندوقه الانتخابي (هارباً) خارج القبة يبحث عن هيئة تبرير “مستقلة”.
حدث ما حدث وتناطحت جميع الكتل، القائمة منها والمنهارة، وظل أصحاب قبضة الشفافية يدفعون بالمشهد التشاوري، حتى كاد يصل الأمر في نهاية المطاف إلى (حرب أهلية برلمانية) لو اشتعل فيها الرصاص، لترحمنا على أيام (داحس والغبراء).
في ذلك اليوم، يوم جلسة “الأربعاء المشؤومة” خرج الرئيس – بفضل الله – سالماً، رغم كل ما كان يعتريه من غضب وعتب، ومرّ المشهد بسلام، وانتهى الموقف كالعادة، بجاهة وطنية مهيبة، أشفعها رئيس مجلس النواب، المُنتخب بكل “نزاهة” – حفظه الله – بجلسة مغلقة “يوم الأحد”؛ لاحتضان تداعيات الموقف، والتشديد المقونن على عدد كبير من (المسدسات) بعدم حمل (النواب) حول خصورهم – بعد اليوم – خشية أن تصبح سمعة المجلس سيئة، وخشية أن يفقد الشعب ثقته بأبطاله المُنتَخَبين، وخشية أن يقلد طلبة الجامعات، وطلبة المدارس، سلوك نوابهم، خاصة بعد قيام أحد الطلبة في جامعة الزيتونة، بإلقاء قنبلة مسيلة للدموع داخل الحرم الجامعي، وقيام آخر في جامعة اليرموك، بمحاولة تفجير أسطوانة غاز.
بعد الجسلة المغلقة، سادت أجواء من الإرتياح وسط صفوف البرلمانيين، الذين طمأنهم رئيس مجلسهم بقوله: “ماحصل يحصل في برلمانات العالم” ارتاح النواب من جانب، وغضب الصحفيون من جانب آخر؛ نتيجة التفتيش الحسي الذي تعرضوا له، بحثاً عن مسدسات في أقلامهم، أو قنابل في أوراقهم، أو أصابع ديناميت في كاميراتهم، أصبحوا متوجسين خائفين خشية أن تجري لهم مستقبلاً عملية شم أنفاس لأفواههم في الجلسات المقبلة، بحثاً عن رائحة “عصير التفاح”.
لقد أحكم القوم “قبضتهم الشفافة”، فنجحت عملية انتخاب الرئيس؛ مما جعل البعض يتساءل ماذا سيحمل لنا الرئيس في جعبته هذه المرة، خاصة بعد أن أعلن عنوان المرحلة القادمة بشكل واضح: النظافة والطهارة؟!
مما لا شك فيه، بأن رئيس الوزراء قد أثبت بما لا يدع مجالاً للشك، بأنه قد تحوّل إلى أسطورة في جرأة قرارته، وأحادية نظرته، وصلابة موقفه، وثقته المفرطة بالنفس، ورؤيته (اليمامية) الثاقبة في ميادين الاقتصاد والسياسة والثقافة…
باختصار اذا كان (ونستون تشرشل) رئيس وزراء بريطانيا الشهير، مدعاة فخرٍ للشعب الانجليزي، فإن (د.عبدالله الرافع) أضحى مدعاة فخرٍ للشعب الأردني، هذا الشعب الذي بات على معرفة تامة بجعبة الرئيس…
لا شيء بالطبع في جعبته، سوى قرارات رفع جديدة – رفع الله قدره – ستُدخل البلد مرة أخرى، في أتون اضطرابات جديدة، ولكنها هذه المرة – ليست كسابقتها – ستكون مفزعة إلى حدّ كبير، فالرجل إذا قرر لا يتراجع، ولا يثنيه أي شيء مهما كان، ولا يفزعه حتى اللون الأحمر (قطرةً كان أم نهراً…).
ولذا فالشعب يتأهب لقرارات رفع جديدة، مصدرها حكومة دولة الرئيس (د. عبدالله الرافع) قد يصل بعضها إلى حد رفع أفراد الشعب برافعة عملاقة إلى أقرب نقطة ملامسة للغيوم، وقلبهم إلى أسفل بعد إخراج بطانة جيوبهم؛ للتأكد من خلوّها من أي قطعة نقدية، ثم خضهم إلى أعلى وأسفل ثلاث مرات بسرعة خاطفة، وذلك زيادة في التأكد من خلو جيوبهم…
ولأن الشعب الأردني يتسم بالطيبة المفرطة – من شابه رئيسه ما ظلم – فإنه سيسلم نفسه إلى أول رافعة حكومية، ولأنه كذلك شعب ودود وصريح فإنه سيسارع في بث عتبه وشكواه، وهو يدور معلقاً في السماء: كنا نتمنى عليك يا سيادة الرئيس أن تأخذ بأيدينا، لنظل بين الشعوب – كما كنا – شعباً مرفوع الرأس، لا شعباً مقلوب الرأس.
m.sanjalawi@yahoo.com