0020
moasem
002
003
004
005
006
007
008
previous arrow
next arrow

جوعٌ مزمن

 

في الأمس استوقفتني عبارةٌ أثناء حوار صديقين، كنت استمع إليهما مع شيءٍ من الشرود،وأذكر أنهما كانا يتحدثان عن شخص معين، وأنه حسب تصنيفهما صعب المراس عندما يتعلق الأمر بالنقود، بالإضافة إلى بعض النكد الذي يضيفه على معاملاته.

فقال أحدهما: (وقاك الله شر من شَبِعَ بعد جوعْ)!وهي عبارةٌ طالما سمعتها،وكنت كالجميع أَصْرِفُها عن نفسي فوراً، محتقراً لذلك الشخص المعني في كل  قصة والذي شبع بعد جوع.

 

ولكن أنا أيضا شبعت بعد جوع، أذكر جيدا أنني جربت الجوع، وأذكر أن مائدتنا كانت مكررة كثيرا بذات الأصناف المتقشفة،”زيتٌ وزعتر،لبن غنم -ننتجه من عنزة سوداء وحيدة غالباً كثيرا ما كنت أحاول أن أشنقها ليبدو موتها طبيعيا،لكي اتخلص من تكرار لبنها على المائدة، ولأجل رعيها أيضاً والذي كان منوطاً بي وحدي- وحبات وزيتون – كثيرا ما كانت تجف ويتغير لونها من كثرة ما عافتها أنفسنا) ولكثرة هذا التكرار كانت مائدتنا وكأنها صفر من كل طعام  فلا تسد جوعنا.

 أذكر أننا كنا نشتهي كل شيء،ولم يكن هناك مناسف تطبخ بالأطنان في الأفراح، فلم نسمع رقم الطُّنِّ أبدا، فغاية الوليمة ان تكون عشر ذبائح عند أغنى من نعرفهم،وكانوا يعيدون المناسف المستنفذة الخاوية من اللحم، من بعد فراغ الرجال من الطعام، فيعيدون تَهْيِئَتَها مرة أخرى للنساء، وهذا كان يعتبر تقدما، في زمني أنا، لأن من كانوا قبلنا كانوا لا يعيدون شيئا، لِيُهَيِّئوهُ لأن لا شيء يعود أصلاً، بعد أن يتناوب عليه الشيوخ أولاً، ثم الشباب ثم الصبيان.

أما ما يتعلق بالمطاعم، فكل ما فيها من أسماء أطعمة عربية وإفرنجية، فهذه أيضا لم نكن نعلم منه شيئا، وإن تمنى أحدنا وجبة فلا يحصر في رأسه قائمة تتعدى الكباب والفروج المحمر- وهو حُلمٌ بطبيعة الحال- فإنما أقصد أنه يحصر أسماءها لا أعيانها!  حتى أنني أذكر رواحي وغدوي أحيانا من أمام أحد المطاعم في السلط لأستنشق  رائحة الدجاج المشوي،لأن الدجاج نفسه كان أمنية ربما تفرد  أبي  (حفظه الله) بتحقيقها عندما تكون إجازته من المعسكر في آخر الشهر،وهذه طفرة كان قليل من الناس يمارسها كما يفعل أبي.

وكانت أمي تُصرُّ كثيرا على (الرَّشوفْ) وهو عبارة عن عدسٍ وجميدٍ وأشياء أخرى كانت توصي أبي بأن يجلبها من دكان أبي حامد، والذي كان ماركة مسجلة للعطارة ولا زال، فتوصي بأشياء لا أعرفها لانعدام اهتمامي (بالرشوف) كوجبة مختارة،وكان من  أكثر ما كنت أبغضه ولا زلت، حتى أن محبتي لأمي لم تشفع للرشوف بأن يصبح قريبا إلى نفسي بحال.

نعم كان جوعاً، إلى حدٍ ما، فلم نعرف يوما أن نختار وجبة كما يفعل أبناؤنا اليوم،لا شيء يقع في طبيخنا بالاختيار، اعتمادنا دوما على ما يتوفر فقط،ولم أكن أرى الكثيرين ممن يعانون من السّمنة،كما هو الحال اليوم،لأن الحمية كانت طبيعية وقسرية، ولا أذكر حتى أن برنامجا واحدا خصص للحمية على شاشة التلفاز، الذي كان لا يحتوي إلا على قناة عربية يتيمة.

كما أذكر أنني كنت واعياً عندما عاصرت قدوم الكهرباء إلى حَيِّنا، فعاشرت (سراج الكاز واللوكس ذي القميص الرقيق المُشِعْ).

وأتذكر نقاشات تعقدها أمي -رحمها الله- ونسوة – ممن كن يقدمن إليها لتفصيل المدارق عندها- حول الفرق بين فرشات الإسفنج وفرشات الصوف، وأن الصوف أحسن لآلام الظهر، فتعجبت! من أين اكتسبن هذه المعلومة؟!، ففرشات الصوف كانت حسب تجربتي، مؤلمة لكل أنحاء جسمي،والأسوأ منها تلكم المخدات المصنوعة منه، والتي تتحول الى طوبٍ قاسٍ سريع باكتساب الحرارة بطيء في فقدانها صيفاً،والحالة معكوسة شتاء بالطبع، لأكتشف بعد ذلك أن أمي لم تكن تقصد فرشاتنا ولا مخداتنا،فأكثرها عندما (فَرَطَتْها) أمامي رأيت أنها محشوة  بقماشٍ مفروم،وليس بصوفٍ من الذي كانت تبالغ في وصف محاسنه، فعرفت عِلَّةَ وجع الظهر، وأن تَرَفَ الصّوف لم يكن متوفرا عندنا إلا في فرشتين كانتا دائما في أعلى رَفِّ الفراش، وكانت تخرجهما خصوصا لجدتي الحبيبة (أم صالح الحياري رحمها الله) كنوع من الإيثار، وكانتا كل جهازها بالإضافة إلى خزانة بأربعة أبواب.

 

قلت للصديقين: أنا أيضا شبعت بعد جوع،قالا: نحن لا نقصد هذا المعنى، فما نعنيه هنا أن الجوع أمرٌ أخلاقي، ومكانه في النفس وليس في الكرش، لهذا فصاحبنا الذي نذكره بهذه الصفة،لديه جوع مزمن، لا يَسُدُّهُ كثرة المال!

قلت إذا فلا تقولوا أنه شبع بعد جوع،فحسب رأيكما أنه لو شبع الآن لما بقي جائعا، والشبعان يزهد في الطعام بعد أن يشبع، تلك جِبِلَّةُ الخلق جميعا،أنتما تذمان جوعه، برغم وفرة ما في يديه من النِّعَمْ! والحقيقة أنه لو شبع لازداد زهده.

 

 ولكن فلتذما (شُحَّهُ) فإن الشُّحَّ وليس الشَّبَعُ أو الجوعْ، هو جامع النقائص، فلا يزال الشُّحُّ بالمرء حتى يُورِثَ نفسه كل خلق ذميم، فإنه لا يزال يصور له أن النفقة إسراف، وأن الحرص حصافة وتدبير، حتى يحرص أن لا يبذل من نفسه شيئا لمخلوق بلا منفعة، فيزهد في الابتسامة والكلمة الطيبة والعشرة الحسنة، إن لم يَجْرِ عليه منها منفعة،وهذا خُلُقٌ لا يرتبط بكثرة نعمة أو قلتها، إلا أنَّهُ في أهل النِّعمة أظْهَرُ منه في الفقراء،لأن الناس يعزون شح الفقير دوما إلى قلة ما فيه يده فيعذرونه،وهم أكثر مراقبة لأحوال وأخلاق الأغنياء منهم للفقراء.