تُونس بين مطرقة الانقلاب وسنداد تصحيح المسار
أحمد سليمان العمري
الرئيس التّونسي قيس سعيّد يُقيل الحكومة ويجمّد البرلمان ويتولّى منصب النائب العام يوم الأحد 25 يوليو/تموز، والحكومة التركية تعلن رفضها، والأخوان في ليبيا صرّح بالتدخّل إذا دعت الحاجة.
خبير القانون الدستوري انقلب على الدستور بإسم الوطنية وباللّغة العربيّة الفصحى؛ وكأنّ تهميشه لرئيس الوزراء ورئيس البرلمان فيما سلف بداية لما أقدم عليه اليوم في خطوة تعتبر استئثاراً بالسلطة دون سند دستوري، بالإضافة إلى رغبته التي بدت بجلاء بوضع دستور جديد يضعه في الصدارة، على الرغم من مشاركته في صياغة دستور تونس 2014م.
اجتماع قرطاج
ترتب دستورياً بعد انتخابات 2019م على الحزب الناجح في البرلمان وذو الأغلبية، وهو النهضة أن يقترح رئيس الحكومة، لكنّ الأخير فشل بتكوين الحكومة بعد اقتراح الحبيب الجملي، الذي فشل بكسب اغلبية البرلمان حتى انتهى القرار إلى رئيس الجمهورية، فاقترح الأخير هشام المشيشي الإداري المحايد الذي أُجمع عليه، كونه تكنوقراط وليس له انتماء حزبي ليسيّر أمور الدولة ويأتمر بأمره، ووافق عليه الإتلاف فقط خوفاً من حلّ البرلمان، واتضح فيما بعد فساده المدقع الذي تداوله الشعب عبر فيديوهات موثّقة، فاستخدمته النهضة كأداة ضغط لتمرير قرارات وتعينات ودون أن يستقيل ليبقى في ظلّ الرئيس.
لقد اتكأ الأخير في قراره الذي أعلنه بعد اجتماع طارئ جمعه مع مسؤولين أمنيين وعسكريين في قصر قرطاج إلى الفصل 80 من الدستور، الذي يخوّله – حسب زعمه – باتخاذ مثل هذه التدابير الطارئة، متذرّعاً بذلك إنقاذ الدولة والمجتمع على حدّ سواء. في حين اعتبر سياسيو النهضة والجبهة الأخرى من الشارع أنّ سعيّد استغلّ الفصل 80 وفصّله على مقاس طموحه، ليبرّر بذلك ما قام به من قرارت؛ إذ ينصّ الفصل على صلاحيات الرئيس لإتخاذ التدابير التي تحتّمها تلك الحالة الاستثنائية بعد استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب وإعلام رئيس المحكمة الدستورية، ووفقاً للوضع الراهن فإنّه لايوجد ما يستدعي لمثل هذا القرارت، كما ولا يجيز له تعطيل العمل البرلماني، مما دعا القوى السياسية تونسياً وعربياً رفض تدابيره، حيث أصبح وصفها بالانقلاب مبرّرا وشرعياً.
اللّافت للنظر أنّ جلّ الشارع التّونسي من صفاقس – وهي معقل الأخوان – وصولاً إلى العاصمة تقف بظهر سعيّد، وعلّ السبب يعود إلى موجة الغضب التي اعترت التّونسي الفترة الأخيرة مع تفاقم إصابات كورونا وحالات الوفاة المتزايدة وتهالك المنظومة الصّحّية، حيث وقعت الحكومة في صدام شعبي جعلته يرجئ حالة التردّي لأداء الحكومة والبرلمان، ممّا زاد رصيد الرئيس في الرأي العام، وتزامناً مع دعوات النزول إلى الشارع احتفالاً في ذكرى عيد الجمهورية وربطها بالضرورة مع القرارت الأخيرة، مقرونة برفع شعارات لإقامة منظومة سياسية جديدة، بدت الجموع كلّها لسعيّد.
فهل رفض التّونسيين للآلية الديمقراطية هو رفضاً ضمنياً للتيار الإسلامي؟ لذلك لا يتحدّث التّونسيون عن مؤامرة دولية أو انقلاب عدا حزب النهضة ومؤيديه، إنّما عن حالة احتفالية بامتياز. وللمراقب أن يرى انقلاب الشارع على نفسه؛ منهم من يعتقد بأنّ قرار الأخير يمثّل تصحيحاً لمسار الثورة وخطوة موجّهة إلى النخّبة السياسية التي أخفقت منذ سقوط زين العابدين بن علي بحصل زهور الحريّة والديمقراطية المرجوّة.
كما ويُرجئ مؤيّدي سعيّد عدم الاستقرار السياسي والتراجع الاقتصادي والصّحّي إلى حركة النهضة، ممثّلة برئيس البرلمان راشد الغنوشي، واعتباره طرفاً رئيساً في البلبلة التي تشوب المشهد التونسي منذ ثورة 2011م، في حين بدا قيس سعّيد مصلحاً ونموذجاً للنزاهة الذي أنتظره التونسيون، وخاصّة أنّه لم يُنفق على انتخاباته سوى تكلفته الشخصية، والتي فاز بها بأغلبية ساحقة، حيث حصد 2 مليون و77 ألف صوت، بالمقابل حصيلة الانتخابات التشريعية وصل مجموعها إلى ما يتجاوز 600 ألف، بينهم 132 ألف صوت لحزب النهضة، دلالة على ضعفهم في الشارع التونسي.
وآخرون من مثقّفي وسياسيّ حركة النهضة ومؤيديها وبعض الشارع يرون قرار الرئيس اعتداءً صارخ على الدستور والثورة في آن، كما وصرّح بذلك الرئيس التونسي الأسبق منصف المرزوقي الاثنين 26 يوليو/تموز عبر فيديو نشره الأخير على صفحته الرسمية بالـ «فيسبوك»، معتبراً قرارات الرئيس بـ «الإنقلاب»، وخروج من نادي الشعوب المتحضّرة وعودة إلى التخلّف والرجعية، وإلّا عولجت المسائل بوسائل سياسيّة سلميّة بدلاً من القمعيّة.
إلى أين ستمضي الأزمة؟
سؤال يؤرقّ الشارع العربي دوناً عن التونسي لإطمئنان الأخير وثقته؛ إلى أين ستمضي الأزمة بعد الإنقالاب؟ ويكتفي الكثير بتسميته إعلان تجميد العمل البرلماني وإقالة الحكومة، وبين السؤال والوقت مساحة كافية قد تحسم الموقف من جانب أنصار الرئيس، ومؤيّدي النهضة من جانب آخر سياسياً وشعبياً. علّ الأيام القادمة كفيلة بجواب يكفي كثير المحلّلين والمراقبين وأصحاب الشأن.
ما يدور في الشارع التّونسي الآن هو تراكمات خلّفتها ثورة 2011م ومعها خلق جبهتين متضادتين، الأولى تمثّل غالبية الشارع ترى بقرارت الرئيس، رغم قناعاتهم بعدم دستوريتها، إلّا أنّها تصحيح للمسار الديمقراطي لتغوّل الطبقة السياسية التي لم تعد تكترث بهموم الشعب وآلت المصالح الشخصية هي هدف أصحاب القرار، وبما يتعلّق بعدم دستورية التدابير فأصبحت القناعات راسخة عند جلّ الشعب بتغيّره حسب المطالب والحاجة الملحّة، ويرون أنّ المحكمة الدستورية التي لا يجوز بدونها العمل بفصل 80 التي سعت حركة النهضة منذ البداية بعدم تكوينها. الشعب الآن يعوّل فقط على نزاهة قيس سعيّد.
الظاهر للعيان أنّ الشارع التّونسي بجلّه بجميع الولايات، بين مثقّف وسياسي وعامل يسير خلف الرئيس، لدرجة أنّ هناك من خرج لأول مرّة ليساند قرارات سعيّد، ولو كانت الجبهة الأخرى تشكّل نسبة عالية لحصل مواجهات قد تكون دموية – حسب مراقبين – فالأغبية تأمل بحصول نهضة تُخرج تونس من مأزقها السياسي والاقتصادي وخلق طبقة سياسية جديدة تخاطب نبض الشارع والمطالب القومية والشعبية بعد تفشّي الفساد والزيادات الدائمة بالضريبة؛ كان من الممكن أنّ يثور الشعب على سعيّد نفسه لو لم يخضع لرغبات الشعب حسب الوصف.
حركة النهضة
الحكومة الحالية أثبتت فشلها بتلبية المطالب البديهية للمواطن وأهمّها الصّحّية ومكافحة الوباء،حيث ارتفعت إصابات كورنا من صفر مقارنة بالعام الماضي لتصل إلى مستوى مأساوي يستدعي التدخّل الخارجي.
التّونسيون يرون بأنّ حركة النهضة والكويكبات التي تتبعها استغنت واستثمرت مقدّرات الدولة بشركات خاصّة وتركت المواطن البسيط يعاني شُحّ الموارد والعوز والحاجة وعدم التلقيح وسخط الدولة، بالمقابل ظهرت طبقة من رجالات النهضة لم تكن قبل الثورة تملك شيء والآن تملك أموالاً طائلة، بالإضافة إلى تنفّذهم في القضاء وشتى مرافق الدولة.
ويرى كثير المراقبين العرب للمشهد التّونسي بأنّ ما يحصل الآن في تونس حصل في مصر، ولكنّني أرى فروقاً جمّة بين مصر وتونس، ففي مطلع الربيع العربي راح ضحيته في مصر المئات بل آلاف، بينما في تونس لم تُرق قطرة دم واحدة، فالجيش والأمن منذ الاستقلال بعيدان عن الحكم والتجاذبات السياسية، تأتمر صحيح برئيس الجمهورية لكنّها لم تواجه الشعب قط؛ لم يحصل في ثورة يناير/كانون الثاني وهي الأحلك في تاريخ تونس، وبالنهاية ليس للجيش مطامع في الحكم لو راقبنا تاريخه.
الإتحاد العام التّونسي
أوّل الخطوات التي أقدم عليها سعيّد هي اجتماعه في 27 يوليو/تموز مع الإتحاد العام التّونسي للشغل الذي يمثّل المركزيّة النقابيّة في البلاد، والتي لا يمكن استثاؤها، حيث طالب فيها الأتحاد سعيّد بضبط جدول زمني للإجراءات الاستثنائية دون إدانة قراره.
تعتبر هذه الخطوة جيدة لتقديم حسن النيّة من عدمها، إمّا أن يتغوّل على الحكم أو يعيد الأمور إلى نصابها والأمانة لأصحابها، بحيث يقرّر الشعب تنقيح الدستور أو تغيّره أو خلق نظام جديد والعمل على برامج اصلاحية، وبهذا يتوجّب على الرئيس في بحر هذا الشهر توضيح الأفق السياسي، وبما أنّه أخذ على عاتقه السلطة التشريعية تحديد موعد العودة إلى نظام الدولة العادي وشكلها، فحالة الفراغ الحكومي تستدعي بأسرع وقت ممكن تشكيل حكومة مع توضيح جلي عن أهدافها.
الأيام القادمة ستبيّن تبعات تدابير قيس سعيّد، كالتضييق الإعلامي على الجهات التي انتقدت قراراته، كما حصل بإغلاق مكتب الجزيرة على سبيل المثال لا الحصر، وسحب حصانات عن بعض السياسيين وتقديمهم بقضايا فساد للمحاكمات، وحظر نشاطات بعض الأحزاب والأشخاص.
الظاهر للعيان أنّ المرحلة القادمة لن تكون قصيرة وسهلة على التّونسيين، فلن يستطيع الأخير تبديل حالة الدولة بأشهر أو سنين من بؤس إلى نعيم، بدءاً من المنظومة السياسية، مروراً بالإقتصادية وانتهاءً بالأهم حالياً وهي الوبائية والصّحّية بشكل عام.