خطاب التَّأَلُّهْ
ما رثيت لأحدٍ كما رثيت لمشايخ الأزهر،في الاحتفال الذي نقلته الجزيرة،كخبر رئيس وأعادت تكراره على مدى يوم كامل،وقد كان أكثر ما أحزنني،ذلك الطلب الذي طلبه السيسي من مشايخ الأزهر الذين تراكموا أمامه،وكانت وجوههم صامتة لا تعبر عن شيء كما عودنا دائما مشايخ السلطة ، من إظهارهم للانشراح الزائد، والاستهلال المستمر،والبسمة الثابتة،والاهتمام الظاهر بكل كلمة وحركة،يصدرها الزعيم الفقيه! كل هذا لم يكن بادياً على الوجوه،وثمة صمت للتعابير السمحة المألوفة.
ربما كان موعد الاحتفال الغريب،هو السبب، فاليوم كان جُمعةًً، والناس في عطلة، والاحتفال تم تدشينه في السابعة صباحا من دون ذكر مبرر لذلك،والشعب الذي يفترض بأن يستمع للخطاب الساخن، سيكون أكثره نياما تتناوشهم الأحلام، ولا يعلمون شيئا عن احتفال مبكر وخطاب مهم،ولكن هذه هفوة ربما استدركتها القنوات الرسمية فأعادته، على أسماعهم وأبصارهم وأفئدتهم، مع شرح مستفيض، لدقائق ما فيه من فوائد علمية أصولية وفقهية فرعية، وعمقٍ عَزَّ نظيره فيما يتعلق باستنباط الأحكام الشرعية من “المتون” التي ألقاها السيسي على دهاقنة الفقه والأصول في الأزهر قبل أن يمضي في سبيله.
ربما كانت قلة النوم، هي ما أظهر الوجوم وذلك الشحوب المستمر في أوجه المشايخ،فلا أظن ولا أعتقد أبدا بأن ما أربكهم هو الطلب الغريب، الذي طلبه السيسي عندما قال: بأنه( ليس من المعقول أن يكون “الفكر” الذي نقدسه عبر مئات السنين يدفع الأمة بكاملها للخطر والقلق والقتل والتدمير في الدنيا كلها) وعند تلك العبارة بالضبط كان (علي جمعة) وبإصرار يفتل شاربه على الجنبين،”وهي حركة لم أعرف مدلولها الفقهي”أما الباقون فكانوا على وجومهم السابق.
ثم استطرد السيسي: (أن واحدا وستة بالعشرة مليار مسلم سيقتلون الدنيا كلها والتي يعيش فيها سبعة مليارات إنسان من أجل أن يعيشوا) ودعا السيسي إلى التخلص من هذه النصوص “المقدسة” وتنقيحها حتى تخرج الأمة من حالة العداء التي يدعيها، ثم هدد علماء الأزهر بأنه سيوقفهم ليحاججهم بهذا عند الله يوم القيامة إن لم يقوموا بعملية التنقيح المذكورة، عندها ترك علي جمعة شاربه، ووضع يديه على عصاه ولفها في حركة دائرية،لم أفهم مدلولها الفقهي أيضا.
ما هو المقدس الذي قدسناه منذ آلاف السنين ويريد السيسي حذفه؟! هو قال بأنه لا يعني “الدين”وإنما يعني “الفكر” والفكر ليس مقدساً،كما هو معروف،عند المسلمين، ويمكن الإختلاف فيه بما يوافق أفكار السيسي.
لم يعقب أحد من مشايخ الأزهر في الحفل حتى نرى، ما استنبطوه مفصلاً من المتون الأصولية في كلام السيسي، لهذا كان لابد من التكهن، سيراً على ما يعرف في الفقه من أحكام تتعلق بالمسائل المشهورة المكررة، وليس ثمة شيء مكرر عرفناه منذ خلقنا وإلى اليوم،كما عرفنا وألفنا، مشهد زعيم عربي يتكلم في دين الله فيجيز منه ويحذف بحسب ما يرى ذلك “الزعيم” الفقيه، ثم يترك للمشايخ أن يوقعوا على مايقول ويفصلوه بلغة شرعية مضبوطة، تخرس كل مخالف للزعيم أن يتمادى فكره على فكر الزعيم الفقيه.
ولم يلق خطاب السيسي اهتماما يذكر برغم غلو الخطاب وتجاوزه على الثوابت.
الجزيرة استضافت فقط وبشكل مقتضب وسريع أحد المعارضين، وقال إن السيسي:يتهم كل المسلمين بأنهم أصل الشر في العالم، وان ما فيه من قتل وتدمير انما هم السبب فيه، أما الشيخ الأزهري الذي اتصلت به الجزيرة ليرد على الضيف الأول فكان جوابه كما كان متوقعا من جوقة الازهر التي حضرت الإحتفال،وكما يتوقع منهم السيسي أن يفصلوه من” متنه الأصولي” بشروح مفصلة لدقائق ما يحمله خطابه الجامع، فقال الشيخ: إن السيسي لا يقصد النصوص القطعية من القرآن والسنة، وإنما الأحكام التي جرت على ألسنة العلماء،وتداولها الناس على أنها نصوص مقدسة، وحتى لو لم يقصد السيسي ما قاله الشيخ، فإن جواب الشيخ كان مؤكدا بهذه الكيفية، ولعل الشيخ يعلم أكثر من غيره أن السيسي لا يمكن أن يكون مدركا لما شرحه الشيخ من تفصيل،حتى لو أقام الليل والنهار بين يديه ليشرحه له.
بغير هذا لم يكن هناك صدى يذكر لهذا الخطاب، وبرغم أنه واضح في التعدي على ثوابت الأمة الشرعية، وما يحمله من محاولة لنسف الشريعة برمتها، إلا أن الناس لم يعبؤوا به،لكثرة ما رأوا من العجائب التي رافقت انقلابه وترشيحه وفوزه، فمفتي مصر علي جمعة لم يترك وصفا من أوصاف الورع والتقوى إلا وخلعه عليه، وكما أباح له دماء المتظاهرين يُهْرِقُ منها ما شاء، ورغبه فيها على أنها قُرْبَةٌ إلى الله؛ لأنهم خوارج ويجب عليه وجوباً أن يقتلهم قتل عادٍ وثمود، وتعددت صيغ الترغيب كقوله:(طوبى لمن قتلهم وقتلوه) (من قتلهم كان أولى بالله منهم) (إضرب في المليان) كما بشره بتواتر الرؤى بتأييده من قبل النبي صلى الله عليه وسلم.
والشيخ الآخر الذي بشر بأن السيسي مرسل من الله تعالى،والشيخ الذي قال:بأن الجنود الذين يعملون عند السيسي انما يعملون في الحقيقة عند الله تعالى، فأيُّما أمرُ وجهه إليهم، فإنما هو أمر مُنَزَّلٌ من الله تعالى.
وتلكم المرأة التي قاطعت السيسي في خطاب له قائلةً: “إنك أنت الحفيظ العليم”،
لهذا لم يلق الخطاب صدىً،ولم يستغرب الناس ما سمعوا فيه، فقد سبقته أقوال وتصريحات، هي في حقيقتها أشد مما قيل إثماً أو توازيه،وبما أنه اعتاد على ذلك
فلماذا إذا لا يلغي السيسي النصوص المقدسة؟! ولماذا لا يدخل التنقيح في الكتاب والسنة، ولماذا لا يطمع أن يختصر له مشايخ الأزهرالإسلام كله، (بكتيب صغير او مطوية) تتحدث عن السماحة ووجوب طاعة الإمام المتغلب،والقضاء على الإرهاب المتمثل بالمظاهر الإسلامية…لماذا لا يطمع منهم بهذا وقد أدُّوا إليه ما هو أكثر منه مما ذكرت بعضه آنفا كمثال وليس كحصر، بل ربما ظن أن “هؤلاء المشايخ” ربما لا يَصْدُرُ المسلمون عن رأي او يعترفون بحكم شرعي إلا بعد إقرارهم وختم الأزهر له، وربما لا يعلم أنهم لا يمتلكون عند الناس فضلا عن أهل العلم أية شرعية خاصة تؤهلهم لحذف فتوى فرعية، أطلقها عالم متأخر ، وربما لو علم لم يأمرهم بما أمرهم من حذف النصوص المقدسة، وغربلة التراث بأكمله وكأنهم يمتلكون وكلاء على الأمة ولهم سلطان العلم على العالم الإسلامي.
لم يعبأ بالخطاب أحد ولن يعبأ ولو قيل فيه من الفواقر،أكثر مما قيل ، فلم يبق هناك شيء ليقال، وتهديده إياهم بأن يحاججهم – والتي لفظها (أحاجيكم) لصعوبة تكرار الجيم- فربما أن هذا التهديد الذي واقعٌ لامحالة ولابد أن يتبرأ بعضهم من بعض يومئذ، ومع ذلك فلم يكن له أي صدىً في أنفسهم، لأنهم قد مردوا عليه وكان وعدا من ربهم سبق ويعلمونه تمام العلم، فالله سيقفهم لأنهم مسؤولون، وقد قرأوا ولابد قول الله تعالى(إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى، من بعد ما بيَّنَّاهُ للناس في الكتاب، أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون) يعلمون أن هذا وعيده لمن كتم فقط! ويتخيلون بالطبع ما هو أشد لمن “زور وافترى ولبس الحق بالباطل” لهذا فما شككت للحظة أن علي جمعة أثناء برمه لشاربه وبرمه لعصاه، يفكر في ذلك الوقوف وتلك المحاججة،فليس هذا مما يخشاه أو يحسب له أي حساب، وإنما كان يفكر في حيلة يخرج فيها من هذا المأزق، بعد أن لم يبق في جعبته شيء من الأوصاف – بعدما قدمه من قبل- إلا وسم الألوهية الخالصة، فمن ذا يملك حق شَطْبِ المقدس إلا الإله.