حرية الإعلام والأسئلة الأخلاقية والحقوقية في قضية الكساسبة
منذ أسر الطيار معاذ الكساسبة صدرت تعاميم بمنع النشر، ولكن بث المعلومات والصور والأخبار المتعلقة به والمرتبطة بقضيته لم تتوقف، فالسلطة مهما أمتلكت من قوة، ومن وسائل للمنع من المستحيل أن تنجح الآن في مواجهة ثورة الاتصالات والمعلومات.
ربما تنحج الحكومة بفرض سلطتها وولايتها على الإعلام الأردني المحلي وخاصة الصحف اليومية والتلفزيونات والإذاعات وبعض الإعلام الإلكتروني، ودون جدال لن تستطيع التحكم بما يضخ بالإعلام الاجتماعي ولا وسائل الإعلام الدولية.
والسؤال الذي يطرح الآن في قضية الطيار الأسير الكساسبة، هل من مصلحة الدولة الأردنية أن “تكمم” أعلامها وأن تثقله بشروط النشر، في حين أن اعلام تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” قادر على بث المعلومات التي تستقطب الاهتمام والترويج حتى وأن كان غالبيتها مفبرك وجزء من الحرب النفسية؟!
منذ اللحظة الأولى تدور حرب إعلامية ليس فقط حول المعلومات وإنما أيضاً على المصطلحات ذات الطابع الحقوقي، فاستخدام كلمة اسير وتكريسها ترتب مسؤوليات على “داعش” في التعامل والحقوق مع الطيار الكساسبة وفقاً للقانون الإنساني الدولي.
ومنذ لحظة أسره أيضاً عاش الإعلام مخاضاً في التعامل مع تفاصيل الحدث، فالصورة التي التقطت للطيار الكساسبة لحظة أسره هل تنشر، وهل نشرها يخالف القانون، وأن كانت لا تتجاوز على القانون، فهل تراعي المعايير الحقوقية والأخلاقية؟
واستمر هذا الجدل كل يوم، هل تنشر وسائل الإعلام ما روج على أنه مقابله مع الطيار “الكساسبة” اجراها موقع الكتروني تابع لتنظيم داعش، وكيف نتعامل مع تدفق المعلومات الهائل عن صفقات واتصالات تجرى للإفراج عنه، وفي الوقت ذاته عمليات للتحالف الدولي لتحريره ويقال باءت بالفشل؟
المسطرة القانونية في الأردن، بالعودة إلى المادة 163 من قانون العقوبات وقانون مكافحة الإرهاب تجرم كل من ينشر أو يروج أخبار أو معلومات لجمعية محظورة، وتنظيم الدولة الإسلامية بالتأكيد تنظيم محظور.
النقاش القانوني شائك، فوسائل الإعلام حين تنشر لا تتوخى الترويج لهذا التنظيم المحظور، ولكنها تريد نشر معلومات وحقائق للرأي العام، فكيف يتصرف الإعلام الواقع بين المطرقة والسندان؟
النصوص القانونية قد تكون رغم عموميتها أكثر وضوحاً من المعايير الإخلاقية المحددة لوسائل الإعلام، وفي قضية الأسير معاذ الكساسبة يدور نقاش حول عائلته ومشاعرها، وما يمكن أن يؤذيها سواء على مستوى الصورة أو النص، ويمتد الأمر وينسحب النقاش على الحقوق الاجدر بالرعاية، هل يتقدم حق المجتمع بالمعرفة أم حق الحياة، وبالتالي: هل يصح أن كل ما يمكن أن يعرض حياة الأسير للخطر فإن على وسائل الإعلام تجنبه؟
وحتى في الجانب الحقوقي فإن الاستثناءات والقيود الواردة في المعاهدات الدولية وخاصة المادة 19 يوجد معايير منضبطة لتطبيقها، وهناك تعليقات وتفسيرات من اللجنة المعنية بحقوق الإنسان تؤكد بأنه لا يجوز للدول أن تتجاوز أو تتعسف في تطبيق الاستثناءات بما يتسبب في اهدار الحقوق الأساسية، وتقول اللجنة بشكل واضح “بأن فرض قيود على حرية التعبير لا يجوز أن تعرض الحق نفسه للخطر”.
في هذا الجو الحساس والمحموم كان أجدر بالحكومة أن تبادر إلى نقاش مستفيض مع وسائل الإعلام للإتفاق على قواعد للتغطية في قضية الكساسبة تضمن أولا أن لا نستباح من إعلام الخصوم، ونحافط على توفير معلومات ذات صدقية عالية، وبذات الوقت نبحث في المعايير الأخلاقية التي تصون المجتمع وتحميه.
قرارات منع النشر لم توقف النشر أطلاقاً، والحكومة تعجز عن محاسبة غالبية الشعب الأردني الذي يستخدم الفيسبوك والتويتر واليوتيوب وينشر ويعيد النشر لمعلومات وصور وأخبار ومقابلات بعضها قد يكون مجرماً قانوناً؟
الخاسر الأول بمنع النشر المجتمع والدولة التي غابت روايتها للأحداث وأصبحت في موقع المدافع، والخاسر الثاني الإعلام الأردني وخاصة المكتوب والمرئي والمسموع الذي تصله قبضة الحكومة بسهولة، ولذلك يقف متفرجاً على ماكينة الضخ الإعلامي، ولا يترك له الخيار ليصنع طريقاً ثالثاً بعيداً عن الإشاعات وأسلوب المنع.