مسَلّمات تغيرت
في بلاد الإغتراب يعلو منسوب الحنين للوطن وترتفع وتيرة متابعة ما يجري به وتكثر الإستفسارات بين المغتربين عن هموم الوطن وأخباره. ووسائل الإتصال قربت المسافات واختصرت الزمن فكسرت قسوة الغربة وانكمش معها الشعور بالبعد لكن الحنين باق والشوق للأرض الأم والوطن لا يعدلهما شيء وقد عبر عن ذلك أمير الشعراء أحمد شوقي وقد كان غارقا بنعيم الإغتراب القسري في الأندلس ببيته الخالد الذي يعد أيقونة عند الحديث عن الأوطان والشوق الذي لا ينقطع:
وطني لو شُغلت بالخلد عنه نازعتني إليه بالخلد نفسي
لذلك, حب الوطن والخوف عليه سمتان تتلازمان على الدوام مع ابن الوطن في الظروف القاسية كما تتلازمان في الظروف الرحبة. وعليه فأي حيف أو خلل يلحق بالوطن تجد هذا الإبن يهب لوقف الحيف وسد الخلل حتى يبقى وطنه متماسكا قويا صامدا أمام التحولات والتغيرات. وحقيقة الأشياء أن هذا النهج المتجذر لدى الإبن يجب أن تماثله المظلة القائدة فتتوحد الأهداف ويسعى الجميع لسلوك درب واحدة تقود بالجهد الموحد والمبني على قاعدة حب الوطن والخوف عليه إلى ما يصبو إليه الإبن والمظلة.
أما إن كان هناك غياب للتناغم والتوافق فلا بد من محاولة كل فريق بالتفرد بزمام الأمور. وحتى نتفادى حصول هذه الفجوة بين الإبن والمظلة, لا مفر من الإلتقاء ولو بمنتصف الطريق لنتدارس الآراء ووجهات النظر ونتفق على ما يجمعنا ويوحد مواقفنا بدل أن نبقي الإبن مهمشا وبعيدا عما يصيبه خيرا كان أو شرا جراء قرارات تتخذ وسياسات تُتبع وكأنه خلق ليأكل ويشرب ويطيع وينفذ. من الحكمة والتعقل ودرءاً لتعثر المسيرة وصونا لصفاء الأجواء على الجميع أن يستظل بظل المظلة وذلك بتقليل ارتفاعها للحد الذي يسمح بعدم بقاء شريحة هامة خارج الظل.
لكن يحار المرء ويصاب بالدهشة والصدمة عندما يرى المسلّمات وما ألفه منها طوال عقود وإذا بظاهرهاالذي اعتدناه يختلف عن باطنها الذي اكتشفناه. فعند التعامل عن قرب مع شريحة ليست بالبسيطة العدد والدخول معها بنقاشات وتبادل الآراء عند تناول الواقع الأردني والسياسات “الممنهجة” والقرارات التي تحتاج للتروي والدراسة, أخلص إلى أن الوضع جد خطير وينذر بما لا نرغب بحدوثه ليبقى الأردن آمنا مستقرا.
لقد كان من المسلّم به وجود شريحة هامة وكبيرة جدا من الشعب الأردني ولاؤها مضمون لا يتزعزع ولا يتغير ولا يتأثر مهما كانت بشاعة القرار ومهما كان اعوجاج النهج. وهي الشريحة التي يتم الإعتماد عليها في الملمات وعلى ولائها وعدم تخلخل تركيبتها, وعلى الدوام يتوقع منها التأييد والتنفيذ عند صدور الأمر ومهما تكن النتائج.
بعد انتقال هذه الشريحة الهامة والكبيرة جدا من الخدمة الرسمية إلى حياة أخرى مختلفة تماما عما ألفته, تبدأ بالتعبير عن إيمانها برؤيتها ورأيها لكن البيئة الوظيفية لم تكن تسمح بذلك. وفيما نرى من خلال تعاملنا مع الشريحة الهامة والكبيرة جدا, نجد أن غالبيتها قد “انقلبت” على ما عهدناه منها على مدار عقود من الولاء المطلق والمسلم به ولم يكن يخالجنا تجاهه شك بأن يتغير يوما ما ولو كان تغيرا بسيطا.
إن عدم الرضا بل السخط والرغبة في التغيير الجذري هي التي نخلص إليها استنتاجا أو نسمعها بشكل مباشر. من هنا خطر هذه الشريحة الهامة والكبيرة جدا إذ الغضب عنوان الحديث والنقاش في الأمور المتعلقة بالسياسة والنهج والإقتصاد والعدالة. عدم الرضا هو السائد في جميع النقاشات والآراء. وضع يدعو للقلق إذا لم تأتي الحلول. مسألة ليست بالسهلة وتستحق الوقوف والتوقف عندها لسبر أغوارها فهي لم تأتي من فراغ أو وهم بل هناك مسببات لوجودها وإذا لم تعالج بجدية وبنية الوصول للرضا, فالأمور تسير نحو مجهول يجب التحوط له.
ترى ألا تستحق هذه القضية الدراسة والتمحيص من المعنيين للوقوف عند أسبابها وهي آخذة بالتوسع؟؟ وليعلم المعنيون أن لا مسلمات إلا الدين الحنيف ولا ديمومة إلا لله. فالبشر تغيرهم الظروف والأحداث ويوجههم الإقتصاد ويحدد نهجهم ويثيرهم ويحركهم غياب العدل والعدالة والعدل كما نعرف هو أساس الحكم. بعيدا عن المحاباة والتملق والتزلف, ما يهمنا هو الأردن واستقراره وسلامته وكل الولاء لمن ينتهج نهجا صحيا سليما قائما على مصلحة الوطن إذ لا أحد ولا شيء يعدل الوطن.
إن أهمية هذه الشريحة الهامة والكبيرة جدا تكمن في احترافيتها التي يمكن أن تستخدم في الخروج عن المألوف والمسلم به, وأكرر لا مسلمات إلا الدين وكل شيء وكل إنسان قابل للتغيير في عالم سريع التغير. فالتغيير والتعديل في المسار والنهج والتصحيح وتحقيق العدالة هي مطالب بل حقوق يؤمن بها الجميع وإذا لم يُعمل على تحقيقها لتصبح واقعا ملموسا فلا بد من وجود من يقف وراء هذا الإصرار على إبقاء الوضع القائم بسلبياته ومنغصاته مما سيؤدي حتما للمواجهة والصدام. ويمكن تفاديهما فيما إذا تنبه وبنية خالصة أولي الأمر والمعنيون من أجهزة أمنية بالإضافة لمن هم “موضع ثقة” لخطورة الأمر وعملوا على إيجاد حلول لإزالة أسباب التململ الذي لا يبشر بخير.
وهذه الشريحة لها مؤيدوها وأنصارها والمتعاطفون معها. والنتيجة, نحن أمام ما يزيد عن 50% من سكان الأردن ناهيك عن المكونات الأخرى والتي موقفها موروث. وبالتالي الغالبية في واد والنظام والدولة في واد مختلف.
تلك هي الحقيقة وإن كانت صادمة ومؤلمة ولا نرغب باستمرارها, فالأجدر البدء جديا وفعليا بمعالجة هذا الوضع الذي أراه بأم عيني قاب قوسين أو أدنى من الإنفجار الذي لا قدر الله سيؤلمنا جميعا دون استثناء وعندها لن يفيد الندم.
ترحيل الأزمات وتأجيل الحلول أو الإبتعاد عنها وعدم الإستجابة لمطالب وحقوق الأغلبية مضافا لها الفقر الآخذ بالتوسع وعدم محاسبة مسببي الفقر الذين سرقوا المليارات بينما من يسرق عشرة دنانير يحبس على الفور, وعدم لمس الرغبة باستغلال الثروات, كلها أمور تقود لتدمير المجتمع وتنسفه رأسا على عقب.
وكما تقول الحكمة “من مأمنه يؤتى الحذر” والحذر هنا يعني معالجة هذا الأمر البالغ الخطورة قبل انفجاره لا قدر الله والمعالجة تعني تحقيق المطالب وتأدية الحقوق وإحقاق الحق وتطبيق العدالة وتغيير النهج الذي يقود في المقام الأول إلى تحقيق الرضا العام تلقائيا.
حمى الله الأردن والغيارى على الأردن والله من وراء القصد.
ababneh1958@yahoo.com