0020
moasem
sum
003
004
006
007
008
Bash
Hofa
Diamondd
previous arrow
next arrow

الفَــــخّْ


لم تُحَنِّكْهُ التّجارب، ولم يكتسب خبرةً، من كثرة فشلهِ، في الظهوروالتألق،برغم ما خطت السنون، على وجهه من توقيعاتها، وتراه على رصيف  الزما ن، ككرسي خشبي عتيق مُهملٍ، ،تحيط به أوراق الخريف الصفراء، ولا يذكره أحد، قد جفف التسول وجهه،وانتزع نضارة الحياء  منه،فترى في تقاسيمه البالية برودا بارزا يشوبه شحوب مكرٍ يجثم في تجاعيده الملتوية.

 وبرغم بلوغه من الكبر عتياً،إلا أنه ظل شَرِهاً، مُندلقاً ،كسيل مياه عادمة،في حي شعبي، محروم من الخدمات الأساسية،وما زال يتسول الإهتمام،من المسؤولين ولا يعبؤون به، وإن كان يكتفي أحيانا من الإهتمام، بصورة يلتقطها، يصافح فيها شخصا مهماً،  ليُعلقها في مكان مُلفتٍ  للضيوف في جدار منزله،وأحيانا كان ينسخ من الصورة بالغة الأهمية عنده، عدة نسخ ليجعلها في أكثر من مكان.

والأكاذيب لديه كانت، نوادر ينسجها بسذاجة، مفترضا سذاجة مثلها، فيمن يستمعون إليه مكرهين،وبرغم أنهم يخجلون من  رجمه بالكذب صراحة،اعتبارا لِسِنِّهِ أحيانا، وتمشياً مع عادة المجاملات أحيانا، إلا أن بعضهم يكاد  يبصق التكذيب في وجهه، مع قسم مؤكد(كذااااب) أقسم أنك كذاب!. ولكن يعود ليبتلع اعتراضه خوفا من مطالبته بالدليل على تكذيبه إياه، ولكن لا يعدم أن  يتجشأ في وجهه عبارة أخرى تظهر التكذيب الصريح.

فبعض المستمعين، لم يكن يخفي تَمَلْمُلَهُ، أثناء سرده الممل، ويغتاظون أحيانا، فيظهر في وجوههم الغيظ، عندما يُسرف، في وصف بطولاته الوهمية.

إلا أنه لا يأبه، لما يعلو الوجوه من الإمتعاظ،فمشاعره مثبتة على لوح جليدٍ سميك  ،ولا يبعث فيها الحرارة، مدفعٌ من لهب التكذيب الممشوج بالاستهزاء،المتطاير من أعين السامعين، فيستمر في السرد كأنه لا يرى شيئا، ويبرر لنفسه أحيانا بأنه  ربما مخطئ، في تفسير تعبيرات وجوههم،…….. ربما  تسول الإهتمام، يفرض عليه ألا يفكر في احتمالات سيئة، يحب استبعادها من ذهنه.

 كثيرا ما يستفز الجلساء ليظهروا إعجابهم، بما يقول! ويستدر كلمات إعجابهم، بمخاطبتهم بأسمائهم لتنبيههم للاستماع إليه، وسؤالهم  عن رأيهم فيما يقول، ويكتفي بأن يقولوا (هاه) أو (نعم) المهم أن يتأكد أنهم استمعوا، مهما كانت درجة اهتمامهم ضئيلة.

 كانت أعين السامعين ممن يعرفونه جيداً، تتحدث ضاحكة عند رؤيته مقبلاً، بعبارة (جاء الكذاب)، وتراهم كأنما أطلقت بينهم صافرة الإنذار من قصف محتمل، فترى الجمع يتفرق من أمامه، ويلوذ كل منهم بما يشغله، ويتخذ ملجأً آمنا حتى لا يتطاير وعيه أشلاءً، من كثرة المتناقضات في الحديث المحشو بالأكاذيب والمتوقع سلفاً،  ،إلا أن كل محاولات تحاشيهم له، كانت تزيده إصرارا،  على اقتحام تجمعاتهم ،متظاهرا بأنه لم يلحظ  الإشارات، وإذا تنبه كان يردها إلى الحسد في نفوسهم، من تألقه وظهوره .

ذات مجلس أخذ يتحدث عن مغامراته، في دولة من دول أوروبا الشرقية، وأسهب في شرح روعة بنيانها ولطيف مناخها ، كما استغرق في تحليل أوضاعها السياسية،في تلك الآونة،وماتعرضت له من قلاقل واضطرابات، وكيف جلس في مقاهيها وجال في أزقتها وتحدث مع مواطنيها، وكيف كانت رحلته محفوفة بالمخاطر ومليئة بالمغامرات،ولم يَنسَ العاطفية منها،وتلكم الشقراء الكاعب التي كانت تغازله بعينين نجلاوين،وقوامٍ متمرد،في احد المقاهي،وكيف أنها لم تطق صبراً فاقتحمت عليه خلوته،وانساب كلامها رقراقا في أذنيه، كأنما هو أغنية شاردة بلحن يتيم لم يتكرر في خياله ولا واقعه إلى يومه هذا، وكيف قد كَلِفَتْ به بعد ذلك،وكم عبَّرت له بشاعرية مفرطة، أنها كانت تأنس بحديثه، ثم يطرق قليلاً ويُظهر الأسى، بعد أن فرقتهما المسافات، ولم يتبقى من الذكريات بينهما، الا رسائل الحب والحرب.

 ومع أنه لم يكن يوما مراسلا حربيا،وبرغم أن هذا معلوم عند الجلساء، إلا أنه ظن بإن إحالة القصة إلى زمن السبعينيات،سيكون تمويها لتاريخ مهني، لا يعرفه السامعون عنه- بالإضافة أن موسوعة ويكبيديا توفر معلومات سريعة، كان يتزود بها عن أي موضوع يريد أن يطرقه أمام السامعين، وبرغم أن بوابة الحديث لا تكون مفتوحة على موضوعة، إلا أنه للهفته يفتح البوابة بمصراعيها على الموضوع بغير مناسبة – كما كان كثيرا يسهب في ذكر الأوسمة، التي حصل عليها بجدارة، لتفانيه الدائم في العمل، وأكثرها كان يشتريها مقلدة من السوق، ويضعها في غرفة الضيوف.

 كان بعض الجلساء عندما يفارقهم، يظهرون التأفف وبعضهم يتبسَّم مع تنهيدة وآخر يطلق صفيراً، ثم يباشرون في تشريح أكاذيبه للوقوف على بعض النوادر المضحكة.

بعضهم تذكر فقال -: هل كان يوما مراسلاً حربيا؟! قال آخر-:أبداً وهل كان  للمحطات العربية أصلا مراسلون؟! لقد كانت محطات فقيرة لا تملك بعضها  مندوباً في بعض المدن التابعة لبلدانها، حتى ينثروا مراسلين في دول منسية!

قال آخر- لم يخطر ببالي أن أسأله عن لغة  البلد التي ذكرها وأحاوره بها، فقد درست فيها وأردف بامتعاظ :ليتني سألته وجعلته يفضح نفسه! قال آخر -: لا تخف سيخرج منها بسهولة ويقول أن هذه لغة كان يتقنها في السبعينيات وقد نسيها!

قال آخر-: لقد سئمت أكاذيبه واستغفاله إيانا، ولن أسكت له في المرة القادمة،وسأكشف كل أكاذيبه من ثغرات كلامه! قصص يقصُّها علينا دوما “كالأفلام الهندية” ويظننا حمقى نصدق ما يقول! ثم يمضي إلى غيرنا ليقص عليه ذات القصص!.

فرد آخر :- لعلك لا تعلم أنه قد كتب بعض تلك القصص، ونشرها في مجلات أدبية بأسلوب ركيك، ومباشَرَةٍ مملة، وبذات السذاجة التي تميزه، عندما يقصها هنا  وكلها تتحدث عن مغامراته الوهمية.

رد آخر:- أظن أن الرجل يعاني من حالة نفسية تسمى (جنون العظمة)! وأراها تزداد عن ذي قبل شيئا فشيئا،فهو أحيانا لا ينتظر من أحد تقييم أقواله، بل يقيمها بنفسه وبشكل غاية في السخافة!.

 في مناسبة أخرى كان يتحدث بإسهاب عن مقابلة أجراها مع مسؤول كبير جدا، وخوفا من افتضاح أمره، قال: أنها لم تبثَّ بناء على رغبة المسؤول ذاته،كما ذكر بأنه رافق مسؤولا كبيراً آخر لدى استقباله مجموعة من اللاجئين السياسيين، وأنه قد أجرى تحقيقاً رائعا حول الموضوع،إلا أن التقرير أدرج من ضمن النشرة الاخبارية، ولم يسمح ببثه مستقلا في صدر النشرة، وهكذا كل أكذوبة كان يجد لها عذرا، كي لا تفتضح من خلال ثغرة قد ينساها، لهذا كان يتحسب الثغرات قبل الإدلاء بأكاذيبه.

كان يصنع الأضواء من حوله، ولا يدري أنها مطفأة لا يراها سواه،وبرغم أنه كان أحيانا تحت  الأضواء فعلاً إلا أنها كانت تكشف ما حوله، ويبقى هو معتماً طيلة الوقت، مما كان يزيد في حنقه واحتقان حقده على كل ما حوله.

في مجلس ضم نخبة من المعارف،قال: بأنه ذات يوم دخل إلى أحد أصدقائه المسؤولين شاب من الموظفين،يعاني من ضائقة مالية  وقد بكى أمام صديقه المسؤول، وشكى بأنه لايملك قوتاً، ويحتاج إلى أن يدخل أمه المستشفى، لإجراء عملية جراحية،لذلك فهو يطالب بسلفة عاجلة، ليفك ضائقته، وعندما رد المسؤول بأنه حاصل على تـأمين صحي يشمل والدته،قال بأنه يحتاج الى المبلغ ليغطي مصاريف أخرى خارج العلاج، ولكن صديقه المسؤول اعتذر بأن السلف العاجلة ممنوعة، فرجى الشابُّ المسؤولَ، ولكنه اعتذر بشدة،بأنه لا يستطيع أن يتجاوز القوانين، ولولا أن المبلغ كبير، لأقرضه إياه من جيبه الخاص،وبما أنه كان حاضرا كضيف عزيز عند صديقه المسؤول، تحركت شهامته حسب ادعائه، وأخرج دفتر الشيكات وحرر شيكا بألف دينار، وناوله للشاب الحزين،وطلب منه الإنصراف، وامتنع أن يأخذ إيصالا بالمبلغ يضمن حقه.

 أحد الجالسين ظل واجماً، طيلة مدة سرد القصة، بينما كانت تعلو وجهه دهشة، أخذت بالتحول

شيئا فشيئا  إلى نظرة من الغضب ظل يرمقه بها، إلى أن انتهى .

 وهنا لم يتمالك الغاضب نفسه، وقال : ممن سمعت هذه القصة يا أستاذ؟!.  – رد بابتسامة باردة: لم أسمعها بل حصلت معي! ألم تكن تستمع إلى حديثي؟! -: بلى لقد استمعت ولكن يا لعجائب الصدف، فالقصة قد حصلت في مكتبي قبل عامين، وأنا المسؤول وكان عندي صديق من رجال الأعمال، استمع لشكوى الموظف وقدم له المساعدة، ورفض أن ياخذ منه إيصال أمانة، والمبلغ هو كما ذكرته في قصتك! يبدو يا صديقي بأنك استمعت للقصة من أحد ما كان قد سمعها مني، فتخيلت أنها حصلت معك.   رد بارتباك : لا أبدا أنا لم أسمعها بل حصلت معي!.

 

-: بل اسمح لي أن أصارحك : بأنك شخص “كذاب” فلا يعقل أن تكون تفاصيل قصتك، مطابقة كل المطابقة للقصة التي حصلت في مكتبي! ورمقه بنظرة احتقار مشوبة بالغضب!.

هنا صمت وظهر  الإرتباك عليه جلياً وبدأ في التأتأة، واضطربت حركته العامة،

 وتصببالعرق من جبينه فليس هناك مجال لسدالثغرات،وبينما أطرق الجلساء الثلاثة حياءً منوقاحته، غادرهم سريعاً.فهذه المرة لم يجد أكذوبة، قد جهزها من قبل، 

وحَبَكَ متنها وأطرافها، وسدَّ ثغراتها فتذكر المسكين هذه القصة، ولم يكن  يعلم أنه  يقصُّها على  أحد شهودها، مدعيا أنها حصلت معه هو “فكانت المفاجأة” التي لم يتوقعها.

(وهكذا مهما تجنب الكذاب الوقوع في فخ، وقع في فخ آخر، وكل فخاخِهِ دوماً من صنعِه هو ،فلا تنصب للكذاب فخاً، لأنه من ينصب الفخَّ لنفسه).