رجع أيلول
أمشي وحيداً هناك ، تاركاً ورائي آخر بيوت المدينة ، وآخر زامور للعيش،وآخر نداء للطيش…أمشي وحيداً فتصغر الأشياء بعيني كلما تقدّمت نحو فراغ العمر، القصور تصبح كبسولات، الأبراج أبر وريدية، السيارات حبوبا تحت «النسيان»،لا شيء يتمدد ويتسع حولي سوى التراب…
السهل سجّادة من الصمت.. تشغله زوبعة بعيدة ترقص على الأرض الحافية ،تكنس قشّ الحصاد ، وأكياس المدينة الفارغة ، و»فلّين» الوجبات الجاهزة . أسلاك الضغط العالي «شبّابة» تعزف للريح الصفراء لحناً غير منتظم..تدوس على ثقوب الغروب لتسّلي نفسها..المزارع المنسية بين أسلاك سجنها، تدلي شجرها للريح ليمشطها بهواء أيلول…وثمة قطيع صغير يمضي بشكل قطري نحو بيت الشعر الوحيد على التلّة ،يقود القطيع حمار وكبش..أمشي ويمشون فنتقاطع بالخطوات ، يدهشني أن أي من الخراف لا يرفع رأسه ليرى طريقه، يكفيه ان يرى مؤخرة رفيقه..
**
رجع أيلول متزنّراً بثلثي أيامه..وأنا أتهرب من إلقاء تحيتي السنوية عليه،أيلول كان يشكّلني كما تشكّل كفّ السماء الغيمة ، كان يدهشني بنقاط تشبه القشعريرة على التراب ، في كل عام كنت أكتب من فيروز لفيروز أغنية ..اختار عبارة من «ورقه الأصفر» وأصنعها مقالاً..أمسح بيدي ندى الشبابيك، وأمسح بكمّي الدمع الذي «يذكرني فيك»..أرصد حركة العائدين إلى بيوتهم وقت المساء ، البخار الملتصق على زجاج «الكوستر» ، ضوء المطبخ الأصفر وأمي تنخل عجنة الغد ، طلاب المحاضرات المتأخرة ، «علب التنك» المتدحرجة ، ورق الليمونة الذي يتساقط صفحات من ذهب ،زرقة دخان الحطب ، الغسيل الذي يلم على عجل خشية الغبار والدموع الرملية … شغب الأولاد خلف الستائر العسلية ، النشرة الجوية ، رائحة الزهرة المقلية…
رجع أيلول هذا العام ، وأنا خيط منسول من حصيرة ألآم..العصافير أجراس سماوية ، ترنّ كل مساء معلنة ابتداء «حصّة الخريف»…لكن المقاعد فارغة ، فكل صناع الفرح لم يحضروا ولم يبق الا حزني «العريف»!..رجع أيلول ،وانا الوجع الممدد بين شاهديّ قبرٍ ووردة .. وأنا المرتّل بطيف الغائبين بين فاتحة وسجدة…رجع أيلول ولا شيء يدمعني إلا خصلة شيب تدلّت من ياسمينة الدار آخر النهار..و»بتصير تبكيني»!!..