للبارودي .. لقد ألبستَ (بلادُ العُربِ) ثوباً ليس فيها
وكالة الناس – الدكتور. رشيد عبّاس
قصيدة (بلادُ العُربِ أوطاني) قصيدة عربية معروفة, جميلة في كلماتها ومعانيها, كانت تدعو إلى التكامل العربي، وتركز على الوحدة والتعليم والحفاظ على التقاليد والثقافة العربية، نظم أبياتها عبر الحدود شاعر الوحدة العربية (البارودي), والبارودي يا معر القوم هو دمشقي الجذور, أردني الأوراق, لبناني الثمار, يمني الظلال, أنشدناها أطفال يانعين, وغنّيناها شباب متحمسين, قصيدة (بلادُ العُربِ أوطاني) أعطتنا في لحظة من اللحظات ثقة بالنفس وأمل بعيد المدى,..واليوم للأسف الشديد تفرقنا عند أعتاب تلك القصيدة متباكيين, ولم يخطر على بال أحد منا أن يسأل عن هذه الفرقة العميقة وعن هذا التباكي, ولا نعرف بالضبط من شاعرنا البارودي رحمه الله إن كان يشكو من بلاد العُربِ أو يشكو إليه، أو ربما يُشهد البلاد على ما سيجري له أو ما سيجرى عليه.
ولكن كغيري قررت أخيراَ أن أعرف بعض التفاصيل الدقيقة..
لا مؤاخذة يا أستاذنا البارودي وأنت شاعر سوري كبير وتعرف الحدود بين الدول جيدا, فحين أنشدتنا القصيدة أطفالاً كنا نعتقد أن الشـام وبغداد ونجد واليمـن ومصـر وتطوان تقع على مشارف ومداخل قريبة من قُرانا ومدننا المتواضعة تلك التي تربينا فيها, كيف لا وقد قلتَ بالحرف الواحد (فـلا حـدٌّ يباعدُنا), وبعد ذلك حطّم هذا الاعتقاد الفطري أساتذة الجغرافيا بخرائطهم المخيفة سامحهم الله, فقد مسّنا وقتها شيء من التناقض الطفولي,..فلمن المشتكى اليوم يا أيتها النفس الأمارة بالسوء؟
لا مؤاخذة يا أستاذنا البارودي وأنت شاعر سوري كبير رحمك الله وكنت تعرف الدين جيدا, فحين أنشدتنا القصيدة أطفالاً كنا نعتقد أن الشـام وبغداد ونجد واليمـن ومصـر وتطوان تقع على نفس المذهب, كيف لا وقد قلت بالحرف الواحد (ولا ديـنٌ يفـرّقنا), وبعد ذلك حطّم هذا الاعتقاد الفطري أساتذة الدين المتشدقين سامحهم الله, فقد مسّنا وقتها شيء من التناقض,..فلمن المشتكى اليوم يا أيتها النفس اللَّوامة؟
لا مؤاخذة يا أستاذنا البارودي وأنت شاعر سوري كبير رحمك الله وكنت تعرف لسان الضَّادِ جيداَ, فحين أنشدتنا القصيدة أطفالاً كنا نعتقد أن الشـام وبغداد ونجد واليمـن ومصـر وتطوان لسان حالها واحد, كيف لا وقد قلت بالحرف الواحد (لسان الضَّادِ يجمعُنا), وبعد ذلك حطّم هذا الاعتقاد الفطري أساتذة اللغة سامحهم الله, فقد مسّنا وقتها شيء من التناقض,..فلمن المشتكى اليوم يا أيتها النفس النّفس المطمئنّة؟
وأكثر من ذلك فقد قلت رحمك الله: (لنا مدنيّةُ سَـلفَـتْ سنُحييها وإنْ دُثرتْ), وقلت.. وقلت.., ولستُ انا هنا من دعاة البواكي, إنما اُلقي بأوراق تبدّلت أحوالها وليس لك ذنب يذكر فيها, وأذكر هنا والذكرى جميلة, أذكر أننا طلبنا من آباؤنا رحمهم الله شراء قواميس للغة من اجل استخراج كلمة (دُثرتْ), لان معلم اللغة العربية أعتذر وقتها عن إعطائنا معناها ولم يبرر لنا ذلك, وما زلنا نبحث عن السبب.. لعلنا نجدها في دائرة الاثار في بلادُ العُربِ!
قصيدة (بلادُ العُربِ أوطاني) الذي ذاع صيتها في كافة البلاد العربية, لا اعرف أن كانت هذه القصيدة هي التي قد خدعتنا قاصدة, أم نحن الذين قد خدعناها قاصدين؟ ..كيف لا وقد عشنا مع هذه القصيدة وكأننا في جمهورية أفلاطون المزعومة, وبعد حين وللأسف الشديد, بدّل الحب دارا, والعصافير هجرت الأوكارا, وديار كانت قديما ديارا, وترانا كما نراها قفارا, واليوم تلهو بنا الحياة وتسخر.
وبعد,
لأن التفتيش لساعات وساعات طويلة على حدود بلادُ العُربِ أوطاني, ولأن عبارات هذا مغربي وهذا مصري وهذا عراقي تملأ مواقع التواصل الاجتماعي في بلادُ العُربِ أوطاني, ولأن تفسيرنا لـ(لا أكراه بالدين) جاء وفق قياسات الثياب (الدشاديش) في بلادُ العُربِ أوطاني, ولأن عقال التخلف ما زال جاثم فوق رؤوسنا في بلادُ العُربِ أوطاني, ولأن اعتقادنا أن الأمم تنهض بالعلم وليس الفكر في بلادُ العُربِ أوطاني, لكل هذا وذاك أقول:
لا مؤاخذة يا أستاذنا البارودي فقد جانبتَ الصواب وألبستَ (بلادُ العُربِ) ثوباً ليس فيها..