فهل يعقل ألا تقوم مقاومة في ظرف أمة تتعرض للعدوان
إذا كان غرضنا هو صنع المستقبل والتشجيع على الصبر والوعي والإبداع والدفاع عن حق الأمة في الوجود بالاستماتة والاستثبات فانه من اللازم أن تكون فلسفتنا المنبعثة من ركام القرون الوسطى وحطام الاستبداد ورحم الاستعمار فلسفة مقاومة ونظرية في الثورة والنضال تتقن لعبة السياسة وتضع يدها على سياسة اللعبة العالمية وذلك بالاقتدار على الجمع بين حنكة السياسيين وأخلاق العلماء وشجاعة المحاربين من المدافعين عن الكرامة وكذلك بإعادة تعريف السياسة تعريف راشدا والتوجه على التو نحو الممارسة والفعل من أجل تحرير الأرض وصون العرض والذب عن الأوطان. ما يسترعي الانتباه أنه قد شاع رأي فاسد حول المقاومة مفاده أنها مجرد رد فعل ورجع صدى، فسلطة الاحتلال هي الوجه والفعل والمقاومة هي القفا والشكل الأقصى للانفعال،وبالتالي نعثر على تسلط وتوسع لإرادة الطغيان من جهة يقابله رفض وعصيان وتمرد على هذه السلطة الغاشمة من جهة أخرى. على هذا النحو يزعم مروجو هذه الدعوى أن المقاومة تشكل بالنسبة للسيطرة الاستعمارية الامبريالية والتوسع الاستيطاني الصهيوني وجهها الآخر المنفعل على الدوام والمعرض للهزيمة اللامتناهية ومعنى ذلك أن مجهود المقاومين ليس بالضرورة سيكلل بالنجاح حتى وإن توفرت فيه مجموعة من الشروط والمبادئ. وقد عزز أصحاب هذا الرأي موقفهم بمجموعة من الحجج والبراهين التاريخية والفكرية مثل: – نهاية التاريخ وموت الآلهة. – ميلاد الإنسان الأخير وخلع الفرد الواعي من عرشه وتبعيته لللاوعي. – لا نقدر على الإفلات من قبضة العولمة الاختراقية، فالعالم أصبح قرية صغيرة. – لا وجود لخارج مطلق بالنسبة للسلطة وحتى المقاومة لابد أن تكون من داخل هذه السلطة ومن أجل إكسابها المزيد من المشروعية. – الاستعمار هو مكر العقل الكلي على مسرح التاريخ وهو المكر الذي لا راد له. – دخول عصر إمبراطوري يتميز بانتكاسة مفهوم الدولة الأمة وسطوع نجم اللاوطنية الجذرية وانتشار إيديولوجيا ما بعد القومية. فهل يعقل ألا تقوم مقاومة من طرف أمة تتعرض للعدوان وتستهدف بناها التحتية من طرف الاستعمار؟ من ينهي سلطة الاحتلال؟ هل هو الضحية الذي وقع عليه الفعل بإيمانه بحق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها وبإيمانه بحقه المشروع في المقاومة أم الجلاد المعتدي عندما يوبخه ضميره يستيقظ فيه صوت الروح ويعود إلى رشده ويستعيد ما في جبلته من إنسانية؟ لماذا تريد الامبريالية وربيبتها الصهيونية أن تربط اسم المقاومة لدينا بتهمة الإرهاب؟ أليس الإرهاب مجرد كلمة اخترعتها الفئات المسيطرة من أجل الهيمنة على الآخرين؟ هل نتنصل من المقاومة كي لا نتهم بالإرهاب أم ينبغي الإشادة بها وإسنادها بالفلسفة التي تنقصها؟ ولكن أليس من اللائق بالنسبة الينا أن نعلن دون مواربة ولا تردد أنه: حيث تكون سلطة استعمارية استيطانية تقوم مقاومة وصمود وتصدي؟ ما يجدر ملاحظته هو اقتران خطر الاستعمار بقيام نقاط مقاومة كثيرة تناهض هذه العولمة وتقوض أركان المعتدين وتكيل لهم الصاع صاعين ويحركها المبدأ الحقوقي الكوني: العين بالعين والسن بالسن والبادء أظلم، وتلعب نقط المقاومة هذه في العلاقات السلطوية الدولية دور الخصم والهدف والدعامة والمتكأ وتؤدي مهمة الدليل والمرشد والسند الشرعي والسبب الموضوعي للشعوب المضطهدة والمظلومة، ترفض منطق الغطرسة وتحاول فرض قوة المنطق وترى أن الحق يعلو ولا يعلى عليه، تفكك علاقات المصلحة والهيمنة وتستبدلها بعلاقات التعايش وحسن الجوار وأخلاق الضيافة على أساس احترام متبادل وإنصاف. اللافت للنظر أن المقاومة ليست خديعة أو وعد لا ينبغي أن يوفى به بل هي ترتسم كالمقابل العنيد الذي لا يمحي للاحتلال وتشكل الطرف النقيض في علاقات الهيمنة والقوة الضاربة للذين اغتصبت ديارهم واكتووا بنار العولمة الملتهبة. إذ يقول روجي غارودي في هذا السياق: “لم تنجح إرشادات الكنيسة والثورات الاقتصادية والسياسية في تغيير الإنسان والعالم فقد مر مبشرون سماويون عاجزون وثوار كثر أرادوا تغيير كل شيء إلا أنفسهم ويجب أخيرا تصور ما بعد العصرية. العصرية تقوم على الظن بان العلم والتقنية هما معيارا التقدم الوحيدين (…) نحن نعيش تحت احتلال جديد احتلال غريب بالنسبة للإنسان: انه احتلال وسائل الإعلان والتلفزيون. يجب تنظيم شبكات مقاومة لللامعنى وتحويل جهود كل الذين يريدون أن يكون لحياتهم معنى. حياتهم كلها: العمل، الانتاج، الخلق، الفنون.”[3] والحق أنه لا توجد مقاومة واحدة بل عدة مقاومات: 1- هناك المقاومات الممكنة التلقائية المنعزلة والمستكينة والميالة إلى الصلح والمتضاربة وهي المقاومات السلمية الهادئة الثقافية والاجتماعية والسياسية(المعارضة) بالمشاركة من خلال الهوية السردية في صنع العالمية. 2- وهناك المقاومات الضرورية المشروعة، غير المحتملة والعنيفة في نظر الدوائر الأجنبية والهادفة إلى مصلحة محددة سلفا وهي طرد الاحتلال ومناهضة العولمة بكل ما أعدت لها من قوة. نقط المقاومة هذه حاضرة في كل مكان من شبكة السلطة الغازية، فلا وجود لمثلث واحد للموت أو مكان وحيد منعزل رافض لتواجد الأجنبي هو مكان التمرد المطلق وإنما روح الصمود متغلغلة في كل الأنفس وبوصلة المقاومة تمثل المعين الذي لا ينضب للانتفاضة، تهذب جميع التمردات وتجعل أشكال النزاعات توطئة من أجل ثورة شاملة. ثمة مقاومات الآن في الحضارة المهددة بالاندثار لحظة القطيعة الكارثية وليس مجرد مقاومة واحدة، إنها حالات واستراتيجيات تنتمي إلى أنواع كثيرة وتقوم بها أطياف عديدة ولا تتوخى أسلوبا واحدا ولا تتبع منهجا مشتركا بل إنها لا تمتلك هدفا بعينه لوجودها فهي تتحرك فوق برك من الوحل وأراضي ملغمة وتقطن فوق حقل من القوى المتصارعة والمتحركة.
بقلم جمال ايوب