0020
moasem
002
003
004
005
006
007
008
previous arrow
next arrow

في ظل انسداد أفق القضية الفلسطينية

 
 
ووسط جهود أمريكية لتحريك عملية التسوية، والضغوط الممارسة على الفلسطينيون والعرب لتقديم التنازلات، ثمة قناعة راسخة لدى الفلسطينيون أن الحراك الحالي لن يكتب له الحياة، وأن الجهود لدفع عملية التسوية في ظل موازين القوى القائمة والواقع العربي الحالي ستتكسر على صخرة التعنت الصهيوني . وأن المفاوضات العقيمة التي استمرت على مدى نحو عقدين لن تفضي إلا إلى المزيد من التعقيد وفرض الأمر الواقع وتكثيف الاستيطان ومنح العدو غطاء للاستمرار في سياساتها العدوانية ضد الفلسطينيين. وأن السبيل لمواجهة الجمود في القضية الفلسطينية وإعادة الزخم لها، هو طي صفحة الارتهان على العدوالصهيوني وبلورة استراتيجية فلسطينية وطنية تنظم الحراك الفلسطيني على قواعد وأسس جديدة .
بات سؤال من أكثر الأسئلة إلحاحاً على الفلسطينيين، لاسيما من جيل الشباب الذين لم يعرفوا من التجربة الوطنية الفلسطينية المعاصرة سوى تجربة السلطة، بما لها وما عليها، ينبغي أن نتذكّر هنا بأن تجربة المقاومة المسلحة، التي تشكّلت في الخارج، والتي تتكئ الفصائل عليها اليوم في الداخل، زادت هذا السؤال إلحاحاً بل إنها وضعته على رأس جدول الأعمال، في عديد من الحراكات الشبابية التي شهدتها مدن ومخيمات الفلسطينيين في الداخل والخارج، فهذه الثورة ألهمت هؤلاء الشباب ، طرح أكثر من مرة في المثال الفلسطيني. هذا حصل في الحراكات التي رفعت شعارات: “الشعب يريد إنهاء الانقسام”، و”الشعب يريد انتخابات مجلس وطني”، وفي التحركات التي جرت من اجل العودة السلمية من الخارج ومن الضفة وغزة إلى الأراضي الفلسطينية (2011)، وفي هبّة التضامن مع الأسرى في “معركة الأمعاء الخاوية”؛ التي كشفت عن المخزون النضالي عند الفلسطينيين، هذه الطاقة النضالية التي يجري تجاهلها، أو الاستهتار بها، أو حتى كبحها.
ما يضفي شرعية على السؤال عن البديل انهيار المشروع الفلسطيني، كما جرى التعبير عنه في حلّ الدولة في الضفة والقطاع، بسبب تهرّبات العدو وقيامه بفرض واقع يحول دون قيام دولة للفلسطينيين، ذات تواصل وقادرة على الحياة، بسبب انتشار المستوطنات، وبناء الجدار الفاصل، والطرق الالتفافية، والسيطرة الأمنية، والهيمنة الاقتصادية، وبالنظر إلى عدم حسم المجتمع الدولي مسألة إنهاء الاحتلال، أو حتى فرض وقف جزئي للاستيطان. وأخيراً، ثمة سبب فلسطيني أيضاً يكمن في الارتهان إلى خيار واحد، هو التسوية، المتمثلة بحل الدولة في الضفة والقطاع، وعبر وسائل المفاوضات، بدون استثمار أي عامل من عوامل الضغط لفرض هذا الخيار
أيضاً، فإن ما يؤكّد على سؤال البديل أفول الزمن الفصائلي، بواقع رسوخ حال الترهّل في البنى والكيانات السياسية الفلسطينية السائدة (المنظمة والسلطة والفصائل) وتآكل مكانتها التمثيلية في المجتمع، وتراجع دورها في مواجهة عدوها، وعدم قدرتها على تجديد ذاتها، على صعيد المفاهيم والبني والعلاقات وأشكال العمل, إذ أن الفصائل المكونة له باتت متماهية، بشكل أو بآخر، مع النظام السياسي السائد، بمفاهيمه وآليات عمله، وحتى أن هذه الفصائل باتت غير قادرة على توحيد ذاتها، وتجديد مفاهيمها، وإضفاء الحيوية على وجودها، فما بالك بتوليد بدائل في الإطار الوطني العام؟
وعلى الصعيد السياسي ثمة أسئلة استراتيجية ، برغم من أهميتها الاستراتيجية، من مثل: هل انتهت مرحلة منظمة التحرير؟ وماذا بعد مرحلة أوسلو؟ ثم ماذا بشأن الخيارات الأخرى وضمنها الانتفاضة والمقاومة والمفاوضة والتسوية والسلطة والوصاية الدولية؟ وماهو مصير القضية الفلسطينية والنظام الفلسطيني السائد؟
هكذا ثمة مشروعية للحديث عن البديل، الذي تأخّر كثيراً، في الساحة الفلسطينية، بل وثمة ضرورة ملحّة للعمل الدؤوب في سبيل ذلك، لكن ما ينبغي التنويه إليه هنا، أيضاً، أن الوصول إلى ذلك دونه صعوبات وتعقيدات جمّة، وأن ذلك سيأتي في وقته، أي بعد أن تتوافر له الظروف الموضوعية الملائمة والحوامل الذاتية المناسبة
وإذا كان النظام السياسي الفلسطيني، الذي بات جد متقادماً اليوم، وليد ظروف عربية معيّنة، لاسيّما أن النظام الرسمي بات منذ زمن بمثابة حارس وحاضن للنظام الفلسطيني السائد، فإن هذا يعني بداهة أن تغيّر هذه الظروف، بنتيجة الثورات العربية، سيدفع بدوره نحو تغيير فلسطيني، وأرجّح أن هذا التغيير لن يتوقّف عند تغيير الطبقة السياسية، وإنما هو سيشمل البني والعلاقات والمفاهيم والخيارات وأشكال العمل، فالنظام العربي الجديد لابد سيتطلب حركة وطنية جديدة و إن من عوامل ترسّخ النظام الفلسطيني طبيعته “الريعية”، لأن هذا النظام لايعتمد في تأمين موارده الذاتية على شعبه، أو على إمكاناته الاقتصادية، بقدر ما يعتمد على الموارد المتأتّية من الخارج، بما يشكله ذلك من ارتهانات سياسية ووظيفية. ما يفاقم من هذه المشكلة أن ثمة حوالي ربع مليون من الفلسطينيين يعتمدون في عيشهم على العمل في السلطة والمنظمة والفصائل، وهؤلاء مع عائلاتهم يشكّلون كتلة اجتماعية وازنة قدرها مليونين ونصف، في دورة اقتصادية “ريعية”، على هامش علاقات الإنتاج التي ينسجها الفلسطينيون في الداخل أو في الخارج. ويخشى أن ثمة قطاعات واسعة من هذه الكتلة قد تجد نفسها، في ظروفها الصعبة،
ما يصعّب من عملية توليد البديل الجديد أن المجتمع الفلسطيني يعاني من التمزّق والتوزّع في أكثر من بلد، وانه يكابد من أكثر من سلطة، ما يضعف من علاقات التواصل والتفاعل والتبادل فليما بينهم، وهذا وضع لا يسهّل عليهم التفكير المشترك بالبدائل، ويصعّب من قيامها عملياً
والمشكلة أن الطبقة الوسطى الفلسطينية لم تنضج بعد إلى الدرجة الملائمة التي يمكنها من إفراز ممثليها وبدائلها، وأنها لم تستطع إيجاد منابر مستقلة تعبّر من خلالها عن ذاتها، وتطرح رؤاها على المجتمع.
إن أي بديل سيحتاج بداهة، بعد كل هذه التجربة المهيضة، إلى مشروع وطني ملهم، يجاوب على أسئلة الفلسطينيين في كافة أماكن تواجدهم، ويوقظ الحلم مجدّداً عندهم ويحفّز هممهم، بعد كل هذا الضياع والإحباط، على أساس تضمين قيم الحقيقة والعدالة والكرامة. وبديهي أن هكذا مشروع يتطلب الإجابة على سؤال اللاجئين بالعودة، وعلى سؤال الفلسطينيين في الضفة وغزة بالتحرر من الاحتلال، وعلى سؤال فلسطينيي 48 في الكفاح ضد العنصرية وحقهم في المساواة الفردية والجماعية، بما يطابق بين قضية فلسطين وأرضها وشعبها، وبما يعيد لحركتها الوطنية طابعها كحركة تحرر وطني بعد أن طغى عليها طابعها كسلطة تتعايش مع الاحتلال
ومعلوم أن أي بديل سيتطلّب بداهة، أيضاً، القطع مع الكيانات السياسية المتقادمة، التي تآكلت مكانتها في المجتمع ولم يعد لها أي دور في مواجهة العدو، ولا تقدم أي إضافة للفلسطينيين كنموذج، ما يفترض إعادة صوغ الكيانات السياسية الفلسطينية، على أسس وطنية، ونضالية ومؤسسية وديمقراطية وتمثيلية
هكذا سيأتي البديل، لكن في أوانه، أي بعد توافّر شروطه وحوامله المجتمعية والسياسية

بات واضحا بعد عقدين من الزمان اتضح فيهما عقم الرهان على إمكانية تحويل مشروع سلطة الحكم الذاتي المنقوص إلى “دولة”، وتهميش منظمة التحرير، وتعميق تجزئة الشعب الفلسطيني داخل وطنه وفي الشتات، ان إعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير تعد المدخل الأساسي والضروري لإحياء القضية الوطنية وإعادة تعريف المشروع الوطني وإيجاد المؤسسة الجامعة والقيادة الموحدة، بالاستناد إلى برنامج سياسي يجسد القواسم المشتركة والحقوق والأهداف الفلسطينية
ولا يمكن لمثل هذا المشروع الوطني أن يكون جمعيا إلا إذا استند إلى حقيقة كون فلسطين التاريخية هي وطن الفلسطينيين جميعا أينما تواجدوا، وأن الشعب الفلسطيني يمر بمرحلة تحرر وطني يعاني فيها من الاحتلال لكل وطنه التاريخي، ومن تشريد أكثر من نصفه داخل الوطن وخارجه، مع أهمية أخذ الظروف والخصائص الخاصة لكل تجمع فلسطيني بعين الاعتبار، في إطار الهوية الوطنية الواحدة والكيان الواحد والبرنامج المشترك والقيادة الواحدة، وعلى أساس أن التمسك بالحقوق التاريخية والطبيعية لا يتعارض مع وضع برنامج مرحلي قابل للتحقيق، لكنه لا يغلق الباب أمام الخيارات والبدائل المختلفة
إن الاستناد إلى الحقوق التاريخية في ارتباطها بالهوية الوطنية وأرض الوطن، والتي تجمع الشعب الفلسطيني كأساس لمشروع وطني جمعي يعيد إحياء القضية الفلسطينية، لا بد أن يأخذ بعين الاعتبار حتى على المدى القصير أن إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة لا يمكن أن ينجحا بمعزل عن إحياء القضية الفلسطينية وإعادة تعريف المشروع الوطني الفلسطيني، بحيث لا يقتصر على إقامة الدولة الفلسطينية على حدود 1967، وإنما يتضمن إنهاء الاحتلال والعودة وتقرير المصير والاستقلال الوطني والدفاع عن الحقوق الفردية والوطنية للشعب الفلسطيني في الداخل (أراضي 48) والشتات، وفتح الباب أمام البدائل والخيارات الأخرى، خصوصًا مع الانسداد المتزايد لإمكانية قيام دولة فلسطينية والتوصل إلى حل؛ ما يجعل من الضرورة القصوى إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية، بحيث تضم الجميع عبر صيغ تمثيلية ديمقراطية تراعي خصوصية وظروف مختلف التجمعات الفلسطينية، وتكون قادرة على تحقيق الأهداف الوطنية
إن مثل هذا المسار في إعادة بناء مكونات الحركة الوطنية في سياق إعادة تعريف وبناء المشروع الوطني، تتطلب إشراك مختلف مكونات الشعب الفلسطيني في إدارة الشأن والمصير الوطني انطلاقا من التوافق على إستراتيجية شاملة وموحدة للكفاح الوطني، تتيح منح استقلالية واسعة لكل المكونات الرئيسية، وتنمية وسائل الترابط والتفاعل السياسي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي بين هذه المكونات، في مواجهة محاولات اختزال فلسطين كجغرافيا في الضفة الغربية وقطاع غزة، وكتاريخ بإهمال النضال الوطني الجمعي وتجاهل النكبة
ولا ينبغي لعملية إعادة بناء المنظمة والمشروع الوطني وفق ذلك، أن تغفل في سياق بلورة الإستراتيجية الوطنية الشاملة ضرورة اضطلاع القوى السياسية الفلسطينية في مختلف أماكن تواجد الشعب الفلسطيني بدورها في تحديد أولويات المهات الرئيسية التي على منظمة التحرير بعد إعادة بنائها القيام بها، على أن تتضمن إن لزم الأمر الاستمرار في اختبار مدى واقعية تحقيق برنامج الدولة الفلسطينية المستقلة في الضفة والقطاع وعاصمتها القدس، ولكن مع الانفتاح على رؤية تطرح الدولة الواحدة على فلسطين التاريخية، وإسناد ودعم مطالب وحقوق كل تجمع فلسطيني، واعتماد التعددية والمدنية، وتمثيل كل التجمعات وتبني تطلعاتها، والاستناد إلى التدابير والقيم الديمقراطية، والاستقلالية عن مراكز القوى الإقليمية والدولية، والاستقلالية المالية، والابتعاد عن الزبائنية والريعية، وضرورة إعادة وضع ميثاق وطني جديد، يأخذ بعين الاعتبار التحولات والمتغيرات الواسعة التي دخلت على الوضع الفلسطيني والإقليمي والدولي منذ الستينيات من القرن الماضي

بقلم جمال ايوب