الخروج من الجحيم
وكالة الناس – عبير المدهون
** هذه الأحداث حقيقية للصديق “فادي الحنيطي” والمعاناة التي تعرض لها في فترة جائحة كورونا.
أكثر من سبعة أشهر مرّت عليَّ كنت أتمنى فيها مع اشراقة كل صباح، عندما أستيقظ، أن تكون حلم مزعج وقد انتهى، كنت أخاف أن أرفع الغطاء عن وجهي حتى لا أجد نفسي في تلك الغرفة الكئيبة، في ذلك الفندق المنعزل في آخر العالم على حدود جبال الهملايا جئت الى هنا في زيارة عمل لمدة ثلاث أيام لأجد نفسي محاصر بين براثن فيروس كورونا والحجر المنزلي، وإغلاق الحدود البرية والمطارات في معظم دول العالم. أيام تبعتها ليال ثم أسابيع فشهور.
أمضيتها في كل ليلة أدعو الله على أن ينتهي هذا الكابوس المزعج الذي أعيش فيه بعيداً عن بلدي وأمي وبناتي وعملي!.
كل يوم كان يمر كان يحمل معه اليأس إلى قلبي، حتى تبدّل حالي من الفرح والسرور إلى الألم والحزن والذبول، وأعيش كل يوم على أمل أن غداً ستكون نهاية الحجر، وإن الحياة ستعود إلى طبيعتها، ولكن في كل يوم ينطفئ الأمل ويموت الحلم مرة أخرى، فأعود إلى وحدتي، ولم يكن يسعد قلبي في وسط الجحيم الذي أعيش فيه سوى سماع صوت أمي ودعائها، وسماع صوت بناتي والاطمئنان عليهن، وصوت صديقتي المجهولة التي كانت تمد روحي بالأمل في كل يوم على أن هذا الكابوس إلى زوال..
أيام مرّت شعرت فيها بعجز شديد في بلد غريب لا أعرف لغته، ولا طبيعة الحياة فيه.. أسير في الشوارع على غير هدى علّني أسمع صوت حبيب، وحدث أن صادفت شخصين من جنسيتين عربيتين فأصبحنا أصدقاء تجمعنا الغربة، في مكان غريب وجدت فيهما الأمن الذي كنت أبحث عنه. أصبحنا نلتقي ونتحدث ونتناول الطعام معاً، لم يكونا ذو استطاعة مادية، فأغدقت عليهم بالمال وبالرعاية والطعام والاهتمام، حتى أتى ذلك اليوم الذي أرسلت لهما دولهم العون لنقلهم الى بلدانهم الأصلية وحضر أحدهم إلى غرفتي لوداعي، فتركته ليصلّي ويشكر الله على أنه خارج من هذا الجحيم، وسبقته إلى السيارة التي سوف تقلّه إلى الحدود الهندية، وقمت بشراء بعض الأغراض والأطعمة التي يحتاجها في الطريق تزيد عن الـ خمسة وثلاثين ساعة سفر بالسيارة، وعندما نزل من الغرفة أعطيته بعض المال واستودعته الله، وذهبت لبعض شؤوني وشراء بعض الحاجيات الضرورية لأعود في الليل إلى غرفتي في الفندق لأكتشف أن صديقي سرق المال الذي أملكه ولم يترك لي شيئاً!..
أصبت بالذهول والخوف والحزن والغضب! ماذا أفعل وقد تجاوز الحدود؟ على ضوئها أبلغت الشرطة، وتم التحقيق بالواقعة ولم أصل إلى شيء. وبدأ فصل جديد من حكايتي مع الجحيم ..
هذه المرة أنا لا أملك المال لأطعم نفسي، أو حتى أدفع للفندق أجرة الغرفة التي أقيم فيها.. شعرت بالحزن والخوف من المجهول، فماذا فعلت له حتى يسرقني، وهل جزاء الإحسان الخيانة والغدر؟!
مرّت عليّ ظروف قاهرة، وحل شهر رمضان وبعد أيام العيد لم أعد أملك المال، وبناتي وأمي بحاجة لي، ولكن ما باليد حيلة.
مرت الأيام ثقيلة حتى حضر أحد الأصدقاء وجلب لي بعض المال، وظلّ الوضع على ما هو عليه، ولكن لا مجال لشراء الطعام، فكل المتاجر مغلقة بسبب الحجر، كنت أضع نقودي أمامي وأنظر إليها وأنا لا استطيع حتى أن أطعم نفسي بشيء منها، أدركت أنَّ لا قيمة لا للمال ولا للعز والجاه عندما لا ينفعك بشيء.
مرت الشهور صعبة جداً وأنا أنتظر أن تفتح السفارات أبوابها، وكل يوم أنتظر من الصباح إلى المساء حتى أتواصل مع أحد من داخل السفارات.. كنت أريد أن أغادر هذا الجحيم إلى أي مكان آخر في العالم، حتى لو كانت الهند ولم أجد من يمد لي يد المساعدة.
وبعد أشهر من الانتظار أدركت أنَّ عليّ التحرّك وعدم الصمت، فقررت أن أتكلم عن مشكلتي في فيديو صغير أناشد فيه ملك البلاد مساعدتي.. فقد ضاق بي الحال ونشرت محتوى الفيديو بمساعدة بعض الأصدقاء ووصل صوتي الى أحد المسؤولين.
وبقيت أنتظر لمدة شهر آخر حتى وصلت سيارة لتقلّني إلى الهند، ومنها الى بلادي.
في صباح ذلك اليوم التالي لم أصدق بأن هذا الكابوس شارف على الانتهاء، وبأني سأغادر هذا الجحيم بلا رجعة، ولم أدرك أن هذا الواقع المؤلم قد انتهى إلّا عندما قال لنا السائق، بعد خمسة وثلاثين ساعة من السفر براً، أننا دخلنا إلى الأراضي الهندية.
تلك الرحلة لن أنساها طوال ما حييت، فلقد علمتني درس قاسياً ..ومن أهم العبر والدروس التي علمتني إياها تلك التجربة أن وجود أمي في حياتي هو أغلى ما أملك، وأن لا قيمة للمال إذا لم تستطع استخدامه، وأن أهم شيء في هذه الحياة وجودي بين بناتي اللواتي حرمت منهن أعوام، ولم أدرك قيمة تلك النعمة إلا عندما شعرت بحاجة وجودهن إلى جانبي، وبحاجتي الماسة إلى سماع أصواتهن ورؤية وجوههن في كل يوم، والتمتّع بصوت ضحكاتهن وحديثهن.. وأدركت أنّي بحاجة لهن أكثر مما هن بحاجة لي ..
وتعلمت، أيضاً، أن لا أعتمد على أحد، فظلك يتخلّى عنك وقت الشدّة .
تعلمت أن لا أثق بأحد، وأن آخذ حذري من كل غريب .
تعلمت أن الصداقة عملة نادرة، فإذا ما وجدت الصديق المناسب لا تتخلى عنه أبداً .
تعلمت أن أسعد نفسي بأبسط الأمور.. فأدركت أن شمعة تنير عتمة..
هذه التجربة جعلتني أعيد النظر بكل ما مرّ في حياتي، وجعلتني أعيد حساباتي وترتيب حياتي.
أحسست أنني ولدت من جديد، وأن الله أعطاني فرصة ثانية للحياة، أنا الهارب من الجحيم..