فأنتم لكم أوطان تعيشون فيها ونحن لنا وطن يعيش فينا
لن يفهم البعض ما سأقوله ما لم يكونوا من أوطان «عتيقة» بمدنها وشوارعها.. بفقرها وغناها.. بتنوع أطيافها وتلون أيامها، ما بين ربيع تطير فيه الفراشات في حدائق البيوت الصغيرة بمساحتها الكبيرة بمحبة أهلها، إلى صيف حار من دون مكيفات، ثم خريف تبدأ فيه الحياة بالشيخوخة، إلى شتاء فيه المطر الذي يغسل الشوارع وأحيانا كثيرة يغسل القلوب، لأن من عاش تحت المطر لا بد أن يتبلل ببعض الدفء في قلبه.. لطالما ردد لساني مراراً وتكراراً “إني اخترتك يا وطني فليتنكّر لي زمني ما دمت ستذكرني، يا وطني الرائع يا وطني يا وطني الرائع يا وطني”. لكنني في كل مرة أردّد فيها هذة الكلمات أشعر بالغصة والذنب وحتى بالنفاق أحيانا لأني لا أدرك عن أي وطن أتحدث. فمنذ أن أدركت أنى وطن محتل، أصبح كل ما أعرفه أن وطني فلسطين ، هذا هو وطني. ولكنني لم أخترْهُ يوماً بل إنّ روحي نفخت عبق ترابه وحبه في لحمي ودمي عن غير قصد. فكيف لي أن أختار وطنًا لا أعرف عنه سوى اسمه وألوان علمه وقصص الألم والأسى التي تكاد لا تغادر بيتاً من بيوته. ومفتاح ثقيل يقبع في جيب جدتي منذ 66 عام؟ كيف لي أن أختار وطنًا يعيش في ذاكرة جدي كسلسلة تراجيدية مليئة بالقهر الدم والتهجير والخيانة؟ كيف لي أن أختار وطنًا لم يورثني أرضًا ولا زرعًا بل أورثني عبارة “لاجئ” وكتب في وصيته لي فصول معاناة طويلة من التهميش والتشرد والحرمان. وهجرني ورحل؟ فأنا أعيش في بلاد لا تحسن ضيافة الجار ولا تصون كرامته بل تسلبه حقه في أن يكون. بلاد مصابة بداء “اللاجوفوبيا” حيث ترفض كل “لاجئ” على أراضيها حتى إشعار آخر. أنا أعيش في بلاد تمنحني حقًا وحيدًا وهو أن أتقاسم الجوع والفقر والحرمان مع شعبها وتحرمني من كل ما نصت عليه دساتير الدول من حق في العمل والمأوى وحق العيش بكرامة. أنا أعيش في وطن عربي كبير جداً ولكنه يضيق بحلم فلسطيني يريد أن يزور دول الخليج أو أن يأكل من ثمار بغداد أو أن يشرب من ماء النيل أو أن يتملك بيتًا في لبنان. فكيف تكون بلاد العرب أوطاني؟ ولكنه رُبّ ضارة نافعة فهذا الحائط الجليدي الذي بنته أنظمة العروبة بيني وبينها يذكرني دائمًا أني لست من رحم هذة الارض ويملؤني قوة وشغفاً لأن أبحث عن وطني الحقيقي فأنسب إليه دمي. عذرًا مارسيل خليفة، فإني لم أخترك يا وطني بل إني لا أعرفك ولم أرك من قبل. أنت بالنسبة لي صورٌ تضج بها حيطان بيتي ونكبة مدمية تكاد تكون وصمة عار على جبين الأمة. ولو أنني خيرت يوماً فسأختار وطناً لم تصله أيدي العروبة المشبوهة التي تخرب كل ما تطاله. لا أريد التفكير كثيرًا في حقيقة وطنٍ أحس بروحه ولا أراه. وطن ينبض دمه الطاهر ليسري في عروقي ويزرع فيّ ثورة تكاد لا تنطفئ. بل سأترك صورة هذا الوطن صفحة بيضاء تداعب مخيلة أطفال المخيم ولهم أن يرسموه بفرشاتهم وألوانهم كما يحلو لهم. فهم أحق من غيرهم وأقدر على رسمه بدقة دون أن يتنازلوا عن شبر من حقهم فيه. أرجوكم لا تلوثوا وطننا بنفاقكم وشعاراتكم الرنّانة. اتركوه طيفاً يضفي على أرواحنا الحب كطائر سلامٍ أبيض ولا تسلبوا منا شغف البحث عنه، فأنتم “لكم أوطان تعيشون فيها ونحن لنا وطن يعيش فينا” وليهنأ كلّ منا بما لديه.
بقلم الكلتب جمال ايوب