عاجل
0020
moasem
sum
003
004
006
007
008
previous arrow
next arrow

يوم جديد في مهنة الحبر والورق

هذا ليس مقالا وداعيا، بالمعنى المعتاد، واذا كان مقالي في الوقت ذاته، آخر ما تخطه يدي هنا، عبر زاويتي التي سميتها «اطلالة» فان عمرا كاملا لا يمكن نسيانه، ولا التنكر لشخوصه، وذكرياته بحلوها ومرها، في دارة الدستور.
اذ انتقل الى الزميلة صحيفة « الغد» كاتبا يوميا، اعتبارا من غد الأربعاء، وأطل عليكم عبرها خمس مرات أسبوعيا، بما تمثله أيضا، من مدرسة صحفية لها بصمتها ورؤيتها، فإن دارة الدستور التي تعد ام الصحف الأردنية، لها تاريخها والقها ومكانتها ومدرستها الحرفية، بجذرها المقدسي، وهويتها وقامتها وشخصيتها الأردنية، ونبضها المهني الاحترافي، ووجهها القومي، والإسلامي المعتدل، وبما تمثله من تنوع وثراء والتزام أخلاقي.
امضيت هاهنا، ستة وعشرين عاما، وفي ختامها مع مطلع العام السابع والعشرين، في هذه المهنة، يأتي انتقالي من موقع الى آخر.
علاقتك بالصحفية، ليست مجرد علاقة عابرة، اذ لي فيها اخوة واخوات، صحافيون خبروا الحبر والورق، وسر المهنة، بما يعنيه، فوق الهموم والاشتباك، مع كل قضايا الداخل وما يجري في الجوار، في فلسطين ردها الله من غربتها، الى ما يجري في العراق وسوريا، وغير موقع ومكان.
ما من تجربة في حياتي، لا يمكن ان انساها، حيثما وليت وجهي، مثل تجربة الكتابة عن الحالات الإنسانية في «الدستور»، واذا كان الفخر يعد عيبا لابد أن يتجنبه المرء، فإن فخري الوحيد في حياتي المهنية، يرتبط بهذا الملف الذي عملت فيه خمسة عشر عاما متتالية، الى جانب عملي الصحفي المعتاد، في تغطية الشؤون السياسية، قبل ان اتحول الى كاتب سياسي .
كتبت ثلاث سلاسل تحقيقية، الأولى « فقراء تحت خط الفقر» وكانت يومية، مخصصة لشهر رمضان، نزور العائلات في المدن والقرى والبوادي والمخيمات، قبيل اذان المغرب بلحظات، فنستكشف أحوال الناس، عند الافطار، ونكتب عنهم، وتأتيهم الإغاثة من جند الله الكرماء، والسلسلة الثانية كانت بعنوان « حكايات لايعرفها احد» وكانت أسبوعية مصورة كل سبت، نزور لاجلها عائلة فقراء او ايتام او مساكين او مرضى، فتأتيهم رحمة الله، من اهل الخير، والثالثة « عين الله لا تنام» وهي زاوية يومية على الصفحة الأخيرة، كانت تعرض لمظلمة انسان، او مريض، دون تصوير، فينصف الله المظلوم، على يد مسؤول او صاحب قرار او فاعل خير.
دخلنا الاف البيوت، من شمال المملكة الى جنوبها، لم نميز بين انسان وآخر، وخبرنا أحوال الناس، ورأيت في وجوههم الاسى والحزن، وكانت سعادتي فقط حين تتم تلبية احتياجاتهم، فيتم بناء بيوت للمحتاجين منهم، او كفالة الايتام، او تعليم الطلبة، او علاج المرضى، او ارسال بعضهم للحج والعمرة، او رفع المظالم، وسداد الديون عن كثيرين.
كان همي الوحيد خلال كل هذه السنين، ان لا اقع في خطأ، عبر نشر حالة معلوماتها غير دقيقة، او تم التورط فيها، بحسن نية، دون تنبه للتفاصيل، وما بقي من الذكرى هنا، يرتبط بكون الصحافة رسالة حقا، لا يمكن ان تشعر بأهميتها او دورها، دون ان تكون مؤثرا، او مساهما في رفع المظالم، او الوقوف في وجه الزلل، أيا كان مصدره، وكل من يمارس الصحافة، دون ان يدرك انها رسالة، تشقى روحه، ولايتسلل الضوء الى قلبه.
هذه الحالات، كانت اخطر تأثير مما اظن، فقد جعلت جلوسي مع رئيس الوزراء، مثلا، يتساوى مع جلوسي في بيت فقير، بل ان النرجسية والغرور يتبددا لكونك سافرت مع هذا او ذاك، او جالست فلانا او علانا، أيا كانت درجته،  حين تبقى صور الفقراء والايتام والمساكين هي الطاغية، وهي المسيطرة على حروفك، ورؤيتك، بما يؤدي حتى الى اعتدال مزاجك السياسي والانساني، وادراكك، ان للقصة وجها آخر في هذه الحياة، وان الترفع عن هموم الناس، بذريعة انك كاتب سياسي، خطيئة تفوق كل الخطايا.
لو سألني احدهم يوما، عما سأترك في هذه الحياة خلفي من ارث، فهو الدعوة لان تكون الصحافة نصيرة الناس، وان لا تتخلى عن قدسيتها عبر التشاغل بقضايا مختلفة، اوالتعامي عن جذر المشاكل، فهذه مهنة لا تقبل الخيانة، وكل من يخونها، يخون نفسه أولا، ويخون شعبه، وامته، ويكون مصيره الفناء بما تعنيه الكلمة، من محق روحي ومادي.
في مقالي الأخير هذا مشاعر مختلطة، يفيض الإحساس بالتأثر بعد هذه العقود في دارة الدستور، والتطلع أيضا الى تجربة جديدة في دارة الغد، بما تعنيه أيضا، من مدرسة لها سماتها، ولا يمكن اليوم، الا ان أتوجه بالشكر لكل من عملت معهم، رؤساء التحرير والمدراء والزملاء الصحفيين والصحفيات، والمصورون، والذين يعملون بكل قوة، مع التحرير الصحفي، في الأقسام الإدارية والمالية، وحراس الحرف وجودته في المطابع والاقسام الفنية، وكل من ساهم ويساهم بتجويد هذا المنتج وتقديمه شهادة للإنسانية.
غدا يوم جديد في دارة الغد، شقيقة الدستور، في وطن عظيم نتمنى فيه، ان تبقى الصحافة الورقية، بكل قوتها واقتدارها، وان تبقى المنارة وسط هذا الظلام الذي يتمدد في كل المشرق، حتى يشاء الله رحيله.

 ماهر ابو طير