من التوقيع إلى التركيع
عندما نقرأ أحداث المنطقة برمتها منذ بدايات القرن الماضي، نشم رائحة التآمر والخيانة المتجذر في ثنايا الأحداث التي تم تسجيلها في صفحات التاريخ؛ ويبدو معها لؤم الذين رقصوا على جثة الامبراطورية الاسلامية الذي قُتلتْ ولم تجد لها بواكي ولم تجد لها نصيرا
عندما نقرأ الأحداث منذ تلك الفترة، يتضح لنا أن الزمن قد بدأ يسجل نهاية العرب؛ وأن الدهر قد ابتلعهم كما ابتلع كثيراً من الأمم السابقة؛ وأصبح زمن العرب هو زمن المنهزمين والمُستَعْمرين بعدما انكشفتْ سوأتهم وانهارتْ مظلتهم الاسلامية، وأصبحوا كما الأيتام على مآدب اللئام؛ وبنظرة بسيطة الى واقعهم المتردي تبدو ضآلة الفرصة التي نعيشها، وضآلة الفسحة التي يمكن أن نناور فيها للخروج من الأزمة
ومنذ أن أُزيح لثام الامبراطورية الاسلامية عن وجهنا العربي مع بداية القرن الماضي، وأصبحنا نرتع تحت مظلة عروبتنا الخجولة، ظهرت قوى التآمر والاستعمار لتُقَطِّع أوصال المنطقة بحجة أنها أملاك منهزمين ولا بد من تقاسمها؛ رغم أن الحقيقة هي أنهم أرادوا أن يسابقوا الزمن ويوفوتوا على العرب فرصة النهوض وبناء امبراطورية إسلامية جديدة وبنكهةٍ عربيةٍ أصيلة؛ وهذا ما ظهر في مؤتمر كامبل عام 1907 والذي استمر لعامين طرحوا فيه سؤالاً عن مَنْ سيقود العالم في القرن العشرين؛ حيث وجدوا أن الاسلام هو الحل الوحيد والخلاص من مآسي ذلك العصر؛ فاجتمعت كل الدول الاستعمارية بكل مفكريها، وقررت التخطيط لإضعاف الأمة، وتقسيم المنطقة، وتفتيت شعوبها؛ مخافة عودة الاسلام الذي سيقض مضجع الشيطان الكامن في عباءة القوى الاستعمارية؛ وظهرت ( مقررات مؤتمر كامبل ) التي شرعنت قيام دولة إسرائيل في قلب الأمة العربية، ويظهر حجم ( المؤامرة الكبرى ) التي أُحيكت ضدنا، والتي -للأسف- يرفضها فكرتها العديد من أبناء أمتنا المغرومين بسحر الحضارة الغربية؛ فجاءت اتفاقية سايكس بيكو ووعد بلفور ومؤتمر سان ريمو ووثيقة الاستعمار الايطالي لليبيا والتي حولتْ المنطقة العربية إلى مناطق نفوذ استعمارية مغروسٌ في قلبها إسرائيل
ثم عملوا على تسييس الدين الإسلامي وأدلجته، ودعم المذهبيات والفرق الاسلامية وشيطنتها، وإقامة النعرات فيما بينها. وتم دعم الانقلابات والدسائس، والاغتيالات، وصب الزيت على الاختلافات المذهبية لإسقاط الدين الاسلامي من الداخل دون مقاومة؛ وظهرت بعض الحركات الاسلامية المتطرفة التي خلقت الويلات والشرور التي نعانيها لغاية اللحظة. وأرادوا تسخيف الإسلام من خلال إصدار بعض الفتاوى التي تخدش صورة الاسلام الناصعة والتي لا تمثله في شيء
وعملوا على إحياء الاقليمية والشعوبية، حتى أصبحنا نفضل دولنا على إسلامنا؛ ونتغنى بها ونمجدها ونتفاخر بها أكثر من إسلامنا وعروبتنا؛ وزاغت قلوبنا وأهدافنا المستقبلية عن المحجة البيضاء، وصار الهلاك يترصدنا في كل منعطفٍ في حياتنا؛ وتركنا الفرصة الذهبية لإسرائيل لتتمدد براحتها وكيفما تشاء، وتستبضع في إنساننا العربي المتهالك وفي أرضنا العربية التي تَنَكَّرَ لها أبناؤها كيفما تشاء
وتتوالى نكباتنا العربية، وتتمزق وحدتنا الداخلية، وتغيب القضية الفلسطينية عن أولوياتنا العربية والاسلامية، وندخل في نفق السلام المزعوم؛ فكيف يكون السلام مع الغاصب؟! وكيف نسالم مَنْ انتهك كل الاتفاقيات الدولية ويحلم كل صباح بالوصول إلى خيبر أرض الأجداد، ويطالب العرب بدفع تعويضات إخراجهم منها منذ أربعة عشر قرن؟! وكيف سنبقى نساير الأنظمة العربية وشعاراتها الرنانة التي تدّعي التحرير
لقد انهار الإجماع العربى عندما تم توقيع اتفاقيات السلام مع العدو الغاصب، لأنها منحته الشرعية كطرفٍ ذي سيادةٍ كاملة، ومنحته الشرعية عندما تعاملت معه كدولة، ومنحته كل الاعتراف الدولي عندما جلست معه على طاولة المفاوضات؛ فكيف تتفاوض الخراف مع الذئب؟ وكيف تجلس فتاةٌ عفيفةٌ طاهرةٌ مع مع مجرمٍ مختلٍ شبقٍ في خلوة له فيها اليد الطولى؟
وقعت مصر عميدة النظام العربي عام ١٩٧٩، وتبعها توقيع الفلسطينيين والأردن؛ فأفقدت هذه المعاهدات أمتنا دورها السياسي، وأخرجت الموقعين من دائرة الصراع، وحيَّدت قوتها العسكرية، ولم يعد لديها ما تقدمه لأجيالها القادمة؛ ودخلنا في دائرة التنازلات والشروط المذلة التي فرضها العدو على المفاوض العربي بقوة ومساندة الغرب المنحاز دوماً لإسرائيل؛ فتوقف التجنيد الإجباري لشبابنا الذين يعتبرون رهان الأمة، وتغيرتْ بوصلة العداء من إسرائيل كعدوٍ أساسيٍ للأمة لتتجه؛ تارةً إلى تركيا وتارةً إلى إيران وتارةً للارهاب المتمكن من مجتمعاتنا بسبب المخططات التي يتم بها ابتزاز الشعوب، وتارةً لتاريخنا الذي صار يتلاعب به رويبضة الثقافة وأقزام الاعلام، وتم تغيير المناهج الدراسية التي هي محرك الأجيال، وشطب كل ما يُسمِّي إسرائيل بالعدو، وشطب كل الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تحض على الجهاد وتؤكد الحق وتدحر المعتدي، وتغيرتْ عقيدةُ جيوشنا، وتبدلتْ استراتيجيتنا القتالية، وقطع العلاقة بين أجيالنا وتاريخنا المشرق، وبين أبنائنا وقيمة السلاح الذي يحسم كثيراً من القضايا مع الذين لا يجنحون للسلم، وتم وأد مصطلح المقاومة، وإلغاء دعم الجيوش عسكرياً، وفقدنا أصالتنا، وأصبحنا نعيش غرباء في ديارنا، وأدخلونا بإكذوبة خيرات السلام، وأننا سنعيش الرفاه والعيش الرغيد من بعد التوقيع مع إسرائيل، وأصبحنا نشيطن كل من يوجه أصابع الاتهام لإسرائيل كمسؤولةٍ عن كل مصائبنا، وخنقنا شبابنا الطامح بمستقبلٍ مشرقٍ يخلو من الظلم والقهر والفقر من أجل تركيعه وليقبل بالواقع البئيس وينساق مع القطيع إلى الذبح
في حين تنفس العدو الغاصب الصُعداء، واستراح بإلغاء حالة الحرب مع العرب، وبدأ يبني ذاته العفنة، ويفرض التجنيد الاجباري على كل مواطن اسرائيلي يأتي من شتات العالم ليعيش في دولة الكيان الغاصب، ويوزع الأسلحة على الجميع استعداداً لأي طاريء، وفرض في مناهجه الدراسية خريطة إسرائيل الكبرى، وناصبَ العداءَ للعربِ والمسلمين، وبنا أجهزته الاستخبارية وجواسيسه في المنطقة كلها حتى وصل إلى أعلى درجات التخطيط والاستعداد للمستقبل في كل حالاته، فارتقتْ إسرائيلُ التي تمثل الظلم والشر والارهاب وتراجع العرب أصحاب الحق والماضي العريق
وبعد واحدٍ وأربعين عاماً من السلام المزعوم مع إسرائيل؛ يتبدى المشهد السريالي، ويظهر زيف دعوات السلام التي تغنت بها حكوماتنا وأنظمتنا السياسية، وتتبدى لنا حقيقة النفاق واللعب من تحت طاولات التفاوض والأموال والرشاوي التي تم دفعها ليشتروا بها فئةً قليلةً من ضعاف النفوس الذين وافقوا على هذا الجور والظلم الواضح، وتظهر المهلكة التي وضعنا دولنا بها نتيجة الاستماع لنصائح الغرب المنحاز والماكر وصاحب الوعود الكاذبة بمستقبلٍ مشرق،
وتبدو حقيقة الانهيار المعنوي الذي وصلت إليه شعوبنا نتيجة حالات التجويع والتطبيع والتركيع الذي تم إجبار الشعوب العربية عليه حتى صار المواطن العربي كبركان يوشك أن ينفجرَ، ضارباً بعرض الحائط كل قواعد الولاء والانتماء والاحترام لوطنه،
وتظهر نوايا إسرائيل الحقيقية القائمة على ابتلاع المزيد من الأرض العربية، والتوسع الدائم على حساب الدول المجاورة، وتتبدى طبيعة الأشخاص الذي آثروا الحياة الدنيا على الآخرة وملايين الدولارات على حساب أوطانهم ودينهم وقضيتهم مقابل العمل كعرابين لتلك الاتفاقيات البائسة، ويظهرون بين الفينة والأخرى ليتحفونا بتصريحاتهم وكلامهم المعسول، ويمعنون في تقطيع أوصال الأمة والنظر إليها كدول لا تمت لبعضها بصلةٍ، وينكرون علينا وحدة الدم والمصير
لقد قبلتْ الشعوب العربية السلام المزعوم عندما أعلن حكامنا أن السلام هو خيار استراتيجي وسيكون من بعده فرج الأمة نتيجة التعامل بنديةٍ مع الطرف الآخر، ولكننا فوجئنا بأن وبالات السلام كانت تضع نير العبودية على رقابنا، وتطلقُ يد إسرائيل للاستبضاع في أجسادنا، وانتهاك حرماتنا، وبث الفتنة، فيما بيننا، وشراء ذمم الحثالة من أبناء جلدتنا؛ وقبلت الشعوب العربية الحرة قرارات الجامعة العربية مرغمةً بتحويل القضية الفلسطينية من قضية إسلامية يقف خلفها مليار وثلاثماية مليون مسلم لقضية عربية يقف خلفها ثلاثماية وخمسين مليون عربي ثم لقضية ممثلها الشرعي والوحيد منظمة التحرير الفلسطينية التي يقف خلفها ما لا يتجاوز ربع أو ثلث الأخوة الفلسطينيين
أي غباء بهذا النظام العربي الذي يوافق على مثل هذه المهزلة ويقبل أن تركع شعوبه ذات الكرامة والعزة والتاريخ المجيد لعدوٍ تعملق نتيجة ضعف هذا النظام المأزوم ؟! علماً بأن الرهان في النهاية سيكون على الشعوب العربية التي آمنت بمصيرها وتسلحتْ بدينها وثقافتها وتاريخها العريق للوقوف في وجه هذا العدو المارق، وستحسم معركة المصير على طريقتها وبإسلوبها المتوكل على الله … إن شاء الله.
كتب الدكتور رجائي حرب