هل نعيش عصر انهيار الحضارة الغربية؟
وكالة الناس – د. رجائي حرب
يقول المؤرخ أرنولد توينبي، في كتابه “دراسة التاريخ” الذي يستكشف فيه عوامل نهوض 28 حضارة وانهيارها، ( إن الحضارات تحمل في طياتها أسباب زوالها )، وهي غير محصنة من الانهيار، سيما وأنها نشأت استناداً على قيمة الانسان ومجموعة العادات والتقاليد والقيم والأعراف الوضعية والتي تعارف عليها؛ مضافاً لهذا الصيرورة الزمنية والمكانية؛ وبما أن العادات والتقاليد والقيم والأعراف لا تكون صالحة لكل زمان ومكان ولأنها صنيعة البشر المحدودي الامكانات والاأعمار والأقدار؛ ولإن التغير هو سُنة الكون فلم تكن هذه الحضارات بعيدةً أو مُحصنةً من الاندثار.
وقد تأثرت الحضارات الإنسانية تأثراً إيجابياً بالأديان السماوية التي أتت كرسائل للأقوام المختلفة على مر العصور لتصحيح مساراتهم الدنيوية المنحرفة وللعودة إلى الطريق المستقيم الذي أراده الله للبشر على هذه الأرض، وكانت كل قصص الأنبياء والرسل في الحقيقة هي قصص حضارات وأقوام وشعوب كانت تعيش على مدى عصور طويلة؛ وابتليت بمصيبة الانحراف ما استوجب إرسال نبي برسالة لتعديل هذا الخطأ؛ فمنهم من اُبتُليَ بالشرك وعبادة الاصنام من دون الله، ومنهم من اُبتُليَ بعاداتٍ قبيحة مثل الغش والتلاعب بالميزان وإتيان الرجال من دون النساء وعبادة النار والسحر والجبروت واستعباد الناس وظلمهم والاحتكار والربا وغيرها؛ فجاءت هذه الرسائل السماوية لتصحيح المسار والوصول إلى الجنة التي تعتبر المنتهى المنشود للإنسان إلا من أبى.
ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم (إنما بُعثتُ لأُتمِّمَ مكارم الأخلاق)، فأتت رسالة الإسلام الخالدة لتُصحِّحَ مثالب الحضارات كلها وليس مجتمع مكة المكرمة التي بُعثَ فيه، وما يصمُّ آذان الحضارات أحياناً هو ما وصلت إليه من قوةٍ وغطرسةٍ، وما تمتلكه من إمكانات بشريةٍ هائلةٍ وامتداد جغرافي كبير وسلاح وتقنيات عالية تدير بها حياتها؛ فتسول لها نفسها أنها عصية على أية قوة أخرى في العالم؛ وأن نظامها وطريقة عيشها هي الأجدر بالاتباع والاعتناق، فتبدأ بعولمة العالم من خلال نشر ثقافتها وإرادتها ومحاسبة الخارجين عليها وتصنيف البشر والحضارات الأخرى (إما معنا أو مع الارهابيين).
فتبدأ باستعباد الناس من دون الله، وتتحكم بأرزاقهم، وتتلاعب بأقدارهم، وتدعم فئة من لصوص الفرص ليكونوا أذناباً لها في كل الدول الأخرى ليكونوا الأذرع التي تروج من خلالهم أفكارها ويزينوا لها أفعالها، وكم تتشابه الحضارات الوضعية فيما بينها بالافكار والمنطلقات؛ فهذا فرعون موسى يمنع النساء من الانجاب حتى لا تتحقق نبوءة النبي المنتظر الذي سيأتي ويهلك عرشه ويبيد مملكته؛ إلا أن الله سبحانه يأتي بموسى عليه السلام رغم عظمة فرعون وصلابته.
ومثله فعل الامبراطور هيرودوت عندما رأي في منامه طفلٌ صغيرٌ يقطع الشجرة الباسقة التي كان يجلس عليها لتسقط فيه، فيقول له المفسر أن نبياً طفلاً سيأتي؛ فيزرع الجواسيس من الأبناء على أمهاتهم ليعرفوا من ستنجب ليقتل النبي المنتظر، إلا أن الله سبحانه يأتي بعيسى عليه السلام رغم قوة الامبراطور وسيطرته.
وكذلك فعل قوم عادٍ الأولى وثمود عندما غرتهم مكاسب حضارتهم مع نبيهم فاستكبروا وجحدوا وتغطرسوا وأوهموا أقوامهم بأن الجنة التي يوعدون بها يمكن بناؤها على الأرض بدل انتظار الذهاب إليها يوم القيامة؛ ولكن هيهات هيهات … يأتي العذاب ولا يبقى منهم أحداً ولا يذر، حتى غدا القوم كأعجاز نخلٍ مُنقعر؛ ويهلك كل شياطين الإنس والجن الذين يسولون لبعضهم زخرف القول ليمنعوا نور الحق من الوصول إلى القلوب المتعطشة لنور الله وحب الخير والعدالة والحرية والمساواة.
واليوم في العصر تأتي الحضارة الغربية المادية بزعامة أمريكا (عادٌ الثانية) وعولمتها التي هيمنت على العالم وجرته بحبالها إلى مرحلة الانسداد في بناء منظومة إنسانية قادرةٍ على الاستمرار، وتتجبر بالعالم وتفعل أفاعيلها الخالية من الانسانية والأخلاق والعدالة والمساواة، وتعتدي على قوانين الانسانية كلها، وتجتاح الدول، وتنتهك الحرمات، وتغتال العدالة على مذابح الاستعباد، وتقتل المساواة على عتبات الانحياز والمواربة، وتُوئدُ الحرية في وضح النهار، والعالم المتراخي يصمت والبعض يصفق لها؛ ثم يصرخ فرعونها المتبجح بقوته وسلطته وماله في وجه العالم بأن عصر العولمة أصبح غير قادر على استيعاب كل هذا المليارات من البشر، وأنه غير مسموح لشرائح كثيرة منهم من الاستمرار بالعيش في النظام العالمي الجديد.
أيُّ عالمٍ هذا وأيُّ حضارةٍ تلك التي تسعى لتصفية الناس ووأدهم والتحكم بأقدارهم وأعمارهم وأقواتهم وحتى في تحركاتهم وأساس كل الحضارات هو الإنسان الذي جعله الله سبحانه شعوباً وقبائل لنتعارف لا أن نتقاتل؛ أيُّ حضارةٍ هذه التي بُنيتْ على جماجم العبيد الذين أحضرتهم مقيدين بالاغلال والأحزان واقتلعتهم من أوطانهم في أصقاع العالم وأحضرتهم لبناء تاريخها وسرقت ثرواتهم وأحلامهم وحتى أمنياتهم؛ أيُّ حضارةٍ تلك التي قامتْ على الكذب على العالم، وتزييف الحقائق، والتلاعب بأفكار الناس، وتصدير الأوهام للشعوب، وسرقة منجزاتهم وخبراتهم، وهي تفتقر إلى أدنى معاني الانسانية والرحمة؛ عندما يضغط أحد أزلامها على عنق مواطنٍ أعزلٍ ولا يتركه إلا وهو ميت بينما كان يصرخ (لا أستطيع أن أتنفس).
أيُّ رؤيةٍ غربيةٍ تلك التي ادعت أن قيام الحضارات بسبب عاملين فقط وهما الطبيعة والإنسان، واختصت بذلك الجنس الأبيض لما يتمتع به من خواص أهلته لصنع الحضارة، وهمَّشت باقي البشر لأنهم يحملون لون جلدٍ آخر؛ وأنشأت حالة صراع بين الطبيعة والإنسان، رغم إن أصل العلاقة بينهما علاقة تكامل وانسجام كون الطبيعة وُجدتْ لخدمة الانسان لا لتتصارع معه؛ أيُّ حضارةٍ تلك التي استبعدت البعد الغيبي من عوامل قيامها ولم تتعامل إلا مع عالم الشهادة وعالم المحسوسات، واستثنت كل ما وراء الطبيعة.
أيُّ حضارةٍ هذه التي سعت إلى تحقيق المنفعة للإنسان وإشباع غرائزه مع إهمالٍ كاملٍ للجانب الروحي، كما وقاموا بفصل الحضارة عن الدين فظهر الانحلال، ونشأت مشكلاتٍ عديدةٍ أهمها انهيار الأسرة، وتفككها، وانتشار المخدرات، وغيرها من المشكلات المجتمعية؛ أيُّ حضارةٍ تلك التي تستعبد الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً في وجودهم وفي عيشهم وحلهم وترحالهم بلا تنميط وبلا شرائح تحت الجلد وبلا شرائح تجسس ومراقبة؛ أيُّ حضارةٍ تلك التي وصلت إلى مرحلة الانسداد التاريخي في حركتها مع عدم القدرة على الخروج من مآزقها العديدة في كل مجالات الحياة؛ حتى وصلت للحظة الانفجار الداخلي لتشرب من نفس كأس الظلم الذي أرادت أن تُسقيه لحضارتنا العربية الاسلامية، عندما خططوا للفتنة بين السنة والشيعة لتنهار حضارتنا من الداخل، فسقاهم الله سبحانه من نفس الكأس ليذوقوا وبال أمرهم وليكون الجزاء من جنس العمل.
أمام كل هذا الخبث المتلاطم في بحار العفن الغربي وحضارته، وفي أجواء هذا الانحدار عندهم، وأمام هذه الأنانية المفرطة والقائمة على مبدأ (أنا والطوفان من بعدي) فلن تفلت هذه الحضارة المتجبرة من العقاب الالهي؛ وستأتي لحظة التدخل الرباني؛ وعما قريبٍ سيكونوا هم الخاسرين، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلبٍ ينقلبون، وسيعرف أذناب تلك الحضارة المغروسين في مجتمعاتنا ودولنا أنهم كانوا على خطأ عندما دسوا سم الغرب في دسم حضارتنا التي رسم خطوطها الله سبحانه خالق هذا الكون، وصحح مساراتها رسولها الكريم محمد صلى الله عليه وسلم عندما تمم مكارم الأخلاق فيها؛ ولم نكن بحاجةٍ لوصفاتهم المقيته ولا نصائحهم القاصرة عن بث الأمل في نفوس التائهين من أبناء أمتنا والذين كانوا يركضوا خلف سراب في صحراء العطش الحضاري.
إن الحضارة الغربية التي صعدت (السِّلَمِ المتهالك) كانت تكسر درجاته كلما ارتفعت كي لا يتبعها أحد، ستسقط بغتةً وبأسرع مما يتوقع أي مُفكرٍ أو مُحللٍ سياسيٍ أو اجتماعي؛ وستكون تبعات السقوط أخطر، وسيكون سقوطاً مميتاً، لأنها وصلت إلى أعلى ما يمكن أن تصله أية حضارة مادية مستعينةً بغطرستها والارتقاء على اكتاف الحضارات الأخرى، لأنها استثنت كل البدائل وركزت على صعود سلم الحضارة فقط وبلا توقف أو إعادة حسابات أو تقييمٍ عقلاني لمسيرتها رغم ادعائها ذلك، وهذا ما جعلها تتخلى عن جانبها الروحي وبعدها الانساني حتى أصبحت حضارةً لا تعقل؛ فارتقتْ حتى انسد التاريخ أمامها، وصار لزاماً أن تفشل … فهذه دورة الحياة … وهذا هو زمن السقوط الحتمي.
وانتظروا إني معكم من المنتظرين