فيما يختاره الله …
تخبرنا إحدى الروايات بأن أحد الملوك كان جالساً على عرشه يوماً ممسكاً سكيناً في يده، فلم يشعر بها إلا وقد جرحت يده وسال منها الدم، وكان من جملة المتواجدين في المجلس مجموعة من المتملقين الذين سارعوا للوم السكينة وتجريمها تزلفاً إلى الملك ومحاباة له كعادة عبيد السلطان، باستثناء وزير واحد كان من عبيد الرحمن، كان يجلس بعيداً يتمتم بصوت خافت، نادى الملك الوزير متسائلاً عن سبب صمته وبماذا يتمتم فأخبره الوزير بأنه لم يزيد على قول ‘الخيرة فيما يختاره الله’، وكان هذا الوزير معروفاً بترديد هذه الجملة في كل أمر يصيبه في حياته.
جن جنون الملك عندما سمع قول الوزير، وقال له: تجرح يدي ويسيل منها الدم أمامك وتقول بكل صفاقة الخيرة فيما يختاره الله !!!
ليأمر من فوره بتجريده من كافة صلاحياته وسحبه إلى السجن، والوزير يردد ‘الخيرة فيما يختاره الله’ ..!
بعد عدة أيام خرج الملك إلى الصيد، وفي أثناء ذلك فوجئ بقبيلة تداهمه وتلقي القبض عليه وتجرده من كل ما يملك، ليس هذا فحسب بل وتقرر تقديمه قرباناً إلى آلهتها !
وبالفعل قربت القبيلة الملك إلى النار ليكون القربان المرتقب للآلهة، قبل أن ينتبه أحد أعضائها إلى الجرح في يده فيصرخ بأعلى صوته: هذا الرجل فيه عيب ولا يصلح أن يكون قربانا لآلهتنا، تهلل وجه الملك عند سماع ذلك، وكان ما تمناه بأن قررت القبيلة بعد ذلك إخلاء سبيله وصرف النظر عنه.
عاد الملك إلى مملكته بعد ذلك، وكان أول أمر أصدره هو إعادة ذلك الوزير ليعتذر منه، فقال له: الآن عرفت أنك كنت محقاً في أن الخيرة فيما اختاره الله لي، فلولا الجرح في يدي لكنت في غياهب النسيان الآن، ولكن كيف تكون الخيرة فيما اختاره الله لك وقد قضيت أياماً في ظلمات السجن، ليجيبه الوزير: أيها الملك لو كنت خارج السجن لكنت معك في رحلتك تلك، ولو كنت معك في تلك الرحلة لكنت الآن قرباناً تلتهمه النيران بدلاً منك، فسبحان من يختار لنا ولا نعلم خير إختياره لنا دائماً …!
ننزعج كثيراً عندما تكون أول سنوات حياتنا عصيبة ومتقلبة، تماماً كانزعاج نبي الله موسى عليه السلام من الخضر عندما قام بإقامة جدار يوشك على السقوط بدون أجر لقوم رفضوا حتى تقديم الضيافة لهما، ولا نعلم بأن الله عزوجل الذي طلب منا الصبر وقدمه على ركيزة الإسلام الصلاة في كتابه الكريم يخفي لنا خلف هذه المصاعب خيراً كثيراً لا نعلم عنه شيئاً، تماماً كموسى عليه السلام الذي لم يكن يعلم بأن ذلك الجدار لغلامين يتيمين في تلك المدينة وتحته كنز لهما أراد الله أن يكبرا ليستخرجا كنزهما بنفسهما بدلاً من سقوط الجدار وضياع الكنز عليهما.
ويصيبنا الضيق عندما نلاقي الإساءات من بعض أهلنا وبني جلدتنا، وننسى كيف أن نبينا محمد خير الخلق عليه أفضل الصلاة والسلام تحمل الأذى من قومه أكثر من عشرة أعوام داعياً لهم بالهداية ‘اللهم إهد قومي فإنهم لا يعلمون’، رافضاً أن يدعو عليهم ولو بكلمة واحدة، ليكون الخيرة فيما اختاره الله له بعد ذلك، شمس دولة إسلامية أشرقت من طيبة على مشارق الدنيا ومغاربها.
ثم نعود لنتكدر في بداياتنا مع العمل عندما يعاملنا أحدهم بفوقية أو إساءة، أو لا نحقق النجاح الذي نتمناه أو نحصل على ما نعتقد أننا نستحقه، ويغيب عن أذهاننا كيف أن إبراهيم عليه السلام إستجاب لأمر الله حتى عندما جاءه بذبح ابنه الذي انتظره طويلاً قرباناً لله عزوجل ليأتيه الخير من ربه بكبش عظيم فداء لابنه ومكافئة على إيمانه وصبره.
ننزعج عندما يتأخر زواجنا ولا نوفق بزوج أو زوجة صالحة لظروف يكتبها الله علينا، ولا نعلم بأن جزاء ‘الحمد لله على كل حال’ لا بد وآت يوماً ممن إذا أعطى أجزل العطاء، ونستعجل الأمر متناسين أن بنت نبي الله شعيب عليه السلام الذي كان من وجهاء وأغنياء قومه ‘مدين’ في شمال الجزيرة العربية لم يخطبها أحد من قومها وبقيت بلا زواج سنوات طويلة، حتى بعث الله لها زوجاً من مصر قطع صحراء سيناء بأكملها، وهو لا يعلم بأن زوجة صالحة قد كتبها الله له في مكان بعيد وبعد سنوات انتظار طويلة، ولأن الله عزوجل يعلمنا ويحثنا على الصبر دائماً لم يكن الزواج مباشرة، بل كان بعد عشرة سنوات من الخطوبة لدفع مهرها، وليكون جزاء صبرها هو نبي الله موسى عليه السلام زوجاً لها، وهكذا يكون جزاء الصابرين.
تصيبنا غصة في القلب إذا ما مرت سنوات زواجنا دون ذرية تحمل إسمنا أو تعيش على ذكرانا من بعدنا، وننسى بأن الله عزوجل أمرنا بالصبر وذكرنا بأنه عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم ليس مرة واحدة بل مرتين، فتكررت بعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيرا، وننسى كيف أن سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم رزقه الله بثلاثة من الذكور وأربعة من الإناث، ورأى أبنائه الذكور الثلاثة يفارقون الحياة أمام عينيه ولم يجاوز أحدهم العام ونصف من عمره فقط، حتى أن بعض قومه أصبحوا يعيرونه بالأبتر الذي لا عقب له الذي إن مات انقطع ذكره، فجعل الله ذكره صلى الله عليه وسلم في أمة يعيش بين جنباتها وقلوبها إلى أن تقوم الساعة.
تمر بنا الكثير من مصاعب الحياة تنسينا أحياناً أياماً ولحظات كثيرة جميلة كتبها الله عزوجل لنا من قبل، وتصبح الدنيا سوداء في عيوننا متناسين بأنه مامن باب يفتح بسهولة بدون صعوبات، وإنما يحتاج للكثير من التعب والجهد والتضحيات، تماماً كمن يريد صعود الجبال فعليه أن لا يتوقع نجاحه في هذه المهمة بدون أن تصاب قدميه بالجروح وأن تنزف منها الكثير من الدماء.
لذلك كله كان علينا أن نتذكر إعجاز الله عزوجل عندما ذكر لنا الظلمات والنور، لأن طرق الظلمات متعددة وكثيرة، بينما طريق النور واحد واضح المعالم، وأن الإنسان الذي خلق عجولاً ومن عجل يستعجل النتائج دائماً ناسياً في كثير من الأحيان جزاء الصابرين الذين لا يزيدون مع كل مطب أو عقبة تواجههم إلا إيماناً بأن الخيرة دائماً فيما يختاره الله.