ولادة عسيرة
إنها إحدى ليالي عام الف وتسعمئة وخمسة وتسعين، بدأ الفلق يشق الطريق عبر الأفق، لقد كان ليلا طويلا عليها،فآلآم المخاض جعلتها تظن أن هذا الليل لن ينقضي.
وكان هو يَذْرَعُ الحجرة، جيئة وذهابا، ينتظر انقضاء الفجر،فأول حافلة تنطلق إلى عمان كانت بعد الصلاة مباشرة، أدَّى الصلاة، وقام بسرعة، فلابد أن يحملها، إلى عمان،لتضع مولودهما الأول، حيث تبرع له بعض الأصدقاء بولادة في مستشفى خاص هناك.
شجعها على المسير، وقام يسندها ثم ركبا في الحافلة إلى عمان في أول رحلة.
وصلا إلى المستشفى، وهناك تلقاها الممرضون سريعا، وأدخلوها إلى غرفة الطوارئ، فوضعت طفلة جميلة، ومضى هو عائدا إلى السلط ليهيء البيت لاستقبالها عندما يعود لأخراجها من المستشفى،فلابد أن تخرج في ذات النهار،حتى لا يحسب المستشفى مبيت يوم آخر،فالمتبرع قدم ولادة تشمل يوما واحدا،وإضافة يوم سيكلفه مبلغا لا طاقة له به،حتى وإن كان عشرين دينارا،فهو مبلغ حسب ميزانيتة العاجزة،يساوي أكثر من سُبْع راتبه.
كان صعلوكا إلى درجة الإفلاس،وبيته متواضع حد الجفاف، نظر في الثلاجة الهرمة والتي اشتراها مستعملة، بعد أن شاخت في بيت أحدهم،وكان قد طلاها ولكن الطلاء الرخيص لم يخف آثار التآكل في هيكلها، ويحتاج بابها إلى إسناد متواصل باليد حتى لا يقع،إذ لم تنفع عملية حمله على (الفصالات المصنوعة للأبواب الخشبية) …
قام بفتحها وألقى نظرة ملأته بالحسرة،فليس هناك إلا كيسٌ صغير مُجَعَّد،قام بفتحه وإذ بحبات بائسة من البندورة،بمعية حبة ليمون يتيمة، نظر إلى رف وحيد في وسط الثلاجة،فرأى بضع حبات خيار،مازال في قوامها بعض نضارة، ثم عرج إلى (الفريزر)فكان خاويا، إلا من كتل جليد، تراكمت في زواياه، أقفل الثلاجة بحذر، لكي لا يسقط الباب،ثم نبش جيوبه فلم يعثر إلا على ستة دنانير، وقليل من الفكة.
الفكة تكفي لركوب الحافلة، إلى المستشفى، وخمسة دنانير، ستكون اجرة التاكسي ليعيدهما إلى السلط برفقةالمولودة، إذ لا يعقل أن يعيدها في الحافلة، وهي ما زالت تعاني من إرهاق المخاض، يتبقى دينار واحد، لا يكفي لصنع غداء!.
عند خروجهما من المستشفى،وهما في غاية الفرحة،يناغيان الطفلة المغمورة بغطاء ناعم ثخين، توقفا على الرصيف،قالت: ما تريد أن تصنع؟ قال:أريد أن أوقف سيارة (تاكسي) لتحملنا إلى البيت. قالت كم ستدفع لها؟ قال :خمسة دنانير قالت وكم معك قال ستة دنانير قالت: لا أبقها وسنركب الحافلة، فلابد ستأتي أمك وشقيقاتك، ولابد أن نصنع لهن غداءً، فمن أين ستأتي به، إن ركبنا(التاكسي).
أطاعها فورا،وركبا في (السرفيس) إلى دوار الداخلية،ثم انتظرا الحافلة، وركبا فيها متوجهين إلى السلط.
أدخلها البيت،وآوت إلى فراش وضيع في زاوية، كانت قد أعدته قبل ذهابها،ومضى هو إلى السوق ليأتي بما يطبخانه.
في تلك الأيام كانت ستة دنانير قد تكفي لصنع وليمة (مقلوبة) تكفي لإطعام سبعة أشخاص.
لم يمض وقت، حتى طرق الباب طارق، فتحت الباب وإذ بأمه وشقيقاته،كما توقعت،فقد علمن أنها كانت، في الليلة السابقة تعاني مخاضا،والولادة بعد المخاض، تحصيل حاصل ولابد.
عاد هو سريعا، بلوازم الغداء،وقامت هي إلى المطبخ وأعدت الغداء،وقدماها لا تقويان على حملها، ثم وضعت الطعام فأكلوا وشربوا ومضوا كل إلى سبيله.
ما أن أقفل الباب خلفهم، حتى عاد إليها، وقال: لن أنسى لك ما صنعت وما قدمت، وأسأل الله أن يوسع علي حتى أكرمك.
قالت لا عليك،فبياض وجهك خير عندي من مال الدنيا!
دارت الأيام دورتها، فأصبح ذا مال كثير، وفي يوم كانت تريد شراء حاجة لها،فقالت له أريد بعض المال، قال لِمَ؟ قالت :ليْ ! أريد شراء بعض الحاجيات النسائية!
ظهر الإمتعاض في وجهه،ومد يداً كسولةً في جيبه، كأنما يمدُّها في جحر أفعى، أخرج رُزْمة من المال،فك عنها المطاطة، قلب الرزمة وكلها من فئة الخمسين، وفي آخرها ورقتان من فئة العشرين، تناول إحدى الورقتين، وضم الرزمة،وأعاد المطاطة، ودس الرزمة في جيبه بسرعة، ناولها العشرين وقال (خذي وأشتري ولا تسرفي)