المواسرجي..!!
دخل المواسرجي متأبطاً حقيبة ضخمة، مليئة بأدوات التصليح، كان لهاثه يسبقه، فأشفقت عليه وقربت إليه كرسيّاً؛ ليريح خطواته المنهكة من صعود الدرج، غير أنه رفض ذلك مع خالص الشكر والتقدير.. بعد ذلك بادرني بالسؤال: وين الحنفية اللي بِتْشَرشِر؟
فقدته إلى المطبخ وأنا في داخلي حزن عارم؛ نظراً لهيئة الملطخة بكل ألوان التعب، والشقاء، والبؤس. مضافاً إلى ذلك لقد كان يتمتع بقامة مفرطة بالقِصَر، لدرجة أنني اعتقدت بأن الحبو أسهل عليه من المشي.
ولكي أخرج من دائرة الحزن عليه قلت له: كِيف الحياة معك؟ فأجاب بكل هدوء جواباً من صلب مهنته: سَاْلكَة والحمد لله.
وفجأة قفز إلى الَمْجلَى بكل رشاقة وبيده أدواته، فسألني وهو يحدّق مليّاً بحنفية المجلى: مِنْ كَمْ يوم وهي هيك؟! فأجبته كما أجبت جميع المواسرجية الذين سبقوه وفشلوا في تصليحها: من أسبوع وهي بتنزف.. شوفة عينك.
فأجابني بكل استهجان: أسبوع وبعدك ساكت؟! حرام عليك يا رجل!!
فبادرته بالقول: لا والله ما أنا ساكت، فَرْجيتها لثلاثة قَبْلك وما حلّوا مشكلتها.
وقتها عاد الرجل إلى هدوئه وقال: يا رجل هَظول مِشْ ما بعرفوا، هظول ما عندهم ضمير، ها هي المسألة وبَسْ.
بعدما سمعت كلامه، اكتسحتني موجة من التفاؤل، وتولّد لديّ شعور قوي بقدرته على حل المشكل، بالرغم من أن جميع الذين سبقوه أطلقوا الشتائم ذاتها بحق بعضهم؛ وذلك لتبيان فرادتهم، وبراعتهم، وخبرتهم في حل المشكلات المستعصية.
فأنا ما زلت أذكر جميع بطولاتهم التي سردوها، أثناء قيامهم بتصليح الحنفية، حتى أنهم ذكروا لي أسماء البيوت التي دخلوها، وأحرزوا فيها انتصارات جبارة على شبكات المياه المهترئة، وما كان ذكرهم لتلك البيوت إلا لتأكيد براعتهم ومصداقيتها بالأدلة، والشواهد، والبراهين..
إن المفارقة الغريبة في الموضوع، هو أن المواسرجية الثلاثة كان كل واحد منهم يُدعَى “أبو العبد”، غير أنني بعدما يئست من حل المشكل، وبعد فشلهم في ذلك، أخذت أبث شكواي إلى جميع معارفي وأصدقائي، وكانت النتيجة أنهم أجمعوا رأيهم على شخص يُدعى “أبو العبد لِقْطَزْ”، ولُقب بذلك إشارة إلى قصر قامته.
وهنا وقع بصري على “أبو العبد”، وهو يُحدّق في صنبور المياه، بنظرات توحي بأنه فيلسوف يغوص على بواطن الأمور، فبادرته بالسؤال: خير يا “أبو العبد” إن شا الله فيه أمل.. طمني.؟!
في هذه الأثناء تربّع “أبو العبد” على رقعة الرخام بجانب المجلى، وحدَّق في وجهي مليّاً، مما جعلني أتفرّس بكل وضوح جميع الخطوط، والحفر، والمنحدرات التي تُعبِّدُ وجهه النحيف. مما أعادني إلى حالة الحزن التي بالكاد تخلصت منها تجاهه. وفجأة قال لي: بتعرف شو مشكلة حنفيتك؟ سألته بلهفة: شووو؟ فأخبرني بكل ثقة: شويّة كُتْكُتْ وبصير وضعها زِينُون.. من الآخر.
فقلت له فَرِحاً ومداعباً: والله يا “أبو العبد” ما أنت قليل، صدق اللي قال “الرجال مش بالشوفات” .. دخيلك كَتْكتها وريّحني.
بعدما أنهى الرجل عمله، حضنته بكلتا يدي وأهبطته على الأرض، ودفعت له أجره، وقبل أن أهبط معه الدّرج، شيّعت الحنفية التي توقف نزيفها بنظرة فرحٍ غامرة، وحمدت الله وأغلقت باب منزلي، وقررت توصيل “أبو العبد” إلى منزله بسيارتي، إشفاقاً عليه من طول المسافة؛ ولكي أوفر عليه أجرة التاكسي.
بعد ذلك، ذهبت إلى بيت أهل زوجي التي أقسمت بأنها لن تعود إلى البيت – لا هي ولا الأولاد- إلاّ بعد الإنتهاء من تصليح الحنفية.
فبشرتها بحدوث ذلك، وتناولنا طعام الغداء، وقفلنا بعد ذلك عائدين إلى المنزل الذي كان مهدداً بالغرق طيلة أسبوع بأكمله، لولا أن تداركه الله بعنايته. فحمدت الله ودعوت للرجل من أعماقي على نظافة يده، وقلت بأعلى صوتي: الله يكثّر من أمثالك يا أبو العبد لقطز.
قصة “أبو العبد” شدّت تفكيري بقوة، إلى مطبخ القرار السياسي في الأردن، الذي ثبت بالفعل أن أغلب “صنابيره” مصابة هي الأخرى بالنزيف، مما ولّد حالة من السّيلان “لقرارات” أدّت إلى إغراق البلد في مستنقعات اليأس والقنوط..
والمشكل الحقيقي في ظل ذلك، هو أنه في كل مرّة يظهر علينا “أبو عبد” جديد، يغرقنا في تصريحات وبطولات وهمية ودونكيشوتية، لا نقول كان ضحيتها فرداً واحداً، بل أتت على شعب بأكمله. وبالتالي فإن أغلب الشبكات الإقتصادية والسياسية أصبحت مهترئة.. مما جعلها تستنزف جميع موارد الدولة وتهدد هيبتها..
نتيجة لذلك أصبح المواطن الأردني، مواطناً مرعوباً من الحاضر والمستقبل، لقد بات ينام ويصحو على قرارات سياسية وأخرى إقتصادية، تحوّلت مع مرور الزمن إلى حبال التفت حوله عنقه، مما أفرز واقعاً ينطبق عليه ما قاله الفيلسوف “فرانسيس بيكون” ولكن بشكل معكوس: واقع يتقدم بشكل طولي من السيء إلى الأسوأ، ومن الأسوأ إلى الأكثر سوءاً..
وحتى عندما نقوم – نحن المواطنين – بفتح النوافذ؛ لنجدّد هواء غرفنا وبيوتنا، فإننا أصبحنا لا نشتم سوى رائحة ملفات الفساد النتنة، والتي تحوّل أصحابها إلى أشباح.. يُنعت كل من يطالب بالقبض عليهم بالجنون، والخيانة، وتهديد أمن البلد واستقراره، كما يُتهم بالطعن في بعض رموزه ورجالاته..
وفي النهاية نقول لجميع الذين يحملون “حقائب ضخمة”، ويتظاهرون بمعالجة نزيف (حنفية خزينة الدولة) وجميع الشبكات الموصولة بها: كل ما نطلبه منكم هو فقط: شوية كُتْكُتْ لضمائركم الوطنية!!
للمتابعة على الفيس بوك: الدكتور محمد السنجلاوي