الكذب والتسرع في فاجعة الطائرة الأوكرانية
كذبت إيران حين نفت «قطعياً» أن تكون الطائرة الأوكرانية قد سقطت بصاروخ انطلق من دفاعاتها الجوية … وتسرّعت واشنطن وعواصم غربية أخرى في تحميل طهران وزر إسقاط الطائرة بأحد صواريخها، حتى قبل التثبت من المعلومة … وحده الرئيس الأوكراني بدا «موضوعياً»، إذ رفض الانجرار وراء الاتهامات المتسرعة، وأشاد بالتعاون الإيراني في التحقيق، قبل أن يعود ويطالب إيران بما طالبها به، بعد اعتراف الأخيرة بالمسؤولية عن الحادث الدامي الذي وقع عن طريق الخطأ.
ثمة ما يشير إلى حالة من التخبط عصفت بالإدارة الإيرانية في الأيام الثلاثة الفائتة، لا ينفع في تبريرها القول بأن «أعصاب البلاد مشدودة» جراء العملية الأمريكية التي استهدفت قاسم سليماني … الخطأ الذي ارتكب كان فظيعاً وباهظ الكلفة، سواء أصدر عن «عطل تقني» أو «خلل بشري» … التعامل بمسؤولية عالية جداً مع سلامة المسافرين والملاحة الجوية أمرٌ لا يحتاج إلى تأكيد ولا إلى نقاش.
في ظني أن القيادة الإيرانية كانت تعرف سبب سقوط الطائرة لحظة وقوعها … بيد أنها «راهنت» على ما يبدو على تمييع المسؤولية وتضييعها … وحاولت أن تنسب الحادث إلى عطل في طائرة البوينغ التي اشتهرت مؤخراً بحوادثها الكارثية المتكررة … وهذا سلوك غير مسؤول، وغير مقبول بأي حال من الأحوال … لا شك لدي بأن تقارير من الدفاعات الجوية قد وصلت للقيادة حول الحادث ومع ذلك سمحت لرئيس هيئة الطيران المدني أن يخرج في مؤتمر صحفي مُسخفاً اتهامات الغرب وساخراً منها، ونافياً بشدة حكاية الصاروخ، وتلكم مصيبة بحد ذاتها.
بيد أن المصيبة الأعظم، تكمن في ألا تكون القيادة الإيرانية على علم بما حصل في مطار الخميني بطهران، أو أنها علمت متأخرة كثيراً … تلكم قضية بحد ذاتها تستوجب التحقيق والمحاسبة والمساءلة، وفي ظني أن أمراً كهذا بات مطلوباً أكثر من أي وقت مضى، بصرف النظر عن تعدد السيناريوهات والتكهنات التي أحاطت بالحادث، على أن يكون تحقيقاً شفافاً ومسؤولاً، وبحضور دولي وازن.
كنّا نتفهم رفض طهران تسليم الصندوقين الأسودين للولايات المتحدة، خشية التلاعب بمحتوياتهما لـ»تلبيس» إيران «تهمة جاهزة»، خصوصاً في هذه الأجواء شديدة التوتر والسخونة بين الجانبين … اليوم، نتفهم طلب المجتمع الدولي تسلم هذين الصندوقين، أو التدخل المباشر في التحقيقات الجارية، فالجانب الإيراني أيضاً، ليس موثوقاً تماماً لإتمام تحقيق نزيه ومستقل في ملابسات الكارثة.
ومن حق حكومات وشركات أن تعلق تحليق طائرات في الأجواء الإيرانية في مثل هذه الظروف، إلى أن تنتهي إيران من اتخاذ الإجراءات اللازمة الكفيلة بعدم تكرار مثل هذه الحوادث، وفي هذا السياق يبدو من الهام جداً أن يشتمل التحقيق في الواقعة، على توصيات ملزمة تتصل بسلامة الإجراءات والاحتياطات المستقبلية، وألا تقتصر على كشف الظروف والأسباب التي أحاطت بسقوط الطائرة الأوكرانية.
حوادث كارثية من هذا النوع، تقع بين حين وآخر، وإيران ليست وحدها من يقارف مثل هذه الأخطاء الموجعة … قبل 32 عاماً كانت واشنطن تسقط طائرة مدنية إيرانية، أودت بحياة عدد أكبر من الركاب والمسافرين، ويومها قيل أيضاً، بأن الواقعة تمت بالخطأ.
الاعتراف بالخطاء فضيلة، والاعتذار عنه واجب حقوقي وأخلاقي، والتعويضات المناسبة، يمكن أن توفر بعض «البلسم» لعائلات وذوي العائلات المنكوبة … أما الفعلة ذاتها، فلا يجوز أن تمضي من دون محاسبة المسؤولين عن الخطأ وكل من شارك في عملية «التمويه» و»الكذب» و»التغطية» على السبب الرئيس للحادثة.
عريب الرنتاوي