عين على العسكر وأخرى على البرادعي
عينٌ على العسكر وأخرى على البرادعي: رؤية إستشرافية
للأزمة المصرية ج3
الدكتور: محمد السنجلاوي
نستطيع أن نلخص شخصية (د.محمد البرادعي) بكلمة واحدة، إنها شخصية “جدلية”. إننا لا نبالغ إذا قلنا، بأن الرجل إذا خطى خطوة واحدة، تثور حوله عاصفة من الجدل، ولم يتمحور الجدل حول هذه الشخصية إبّان الأزمة المصرية فحسب، وإنما كان ممتدا نحوها حتى وهي خارج مصر، منذ أن كان مديراً عاماً “للوكالة الدولية للطاقة الذريّة”، التي تولى إدارتها ثلاث مرات متتالية في الأعوام (1997، 2001، 2005).
ولأنه شخصية جدلية، فقد كان من الطبيعي أن ينعته الخصوم بـ (العميل)، وأن ينعته الأنصار بــ (الوطني). وما بين النعتين كان دائماً يلوح في الأفق “الحرب على العراق”، واستقالته من منصبه الأخير (نائب الرئيس المؤقت عدلي منصور للشؤون الخارجية). دون أن يغيب عن الذهن بأنه حاز على جائزة “نوبل للسلام” عام (2005)، ليتحول بذلك إلى بطل عالمي من أبطال السلام، التي أكّد الخصوم على أنها كانت ثمناً لخيانته.
بعد أن أنهى الرجل عمله في “الوكالة الدولية للطاقة الذرية”، عاد إلى وطنه مصر في عام (2010) وفي جعبته الكثير من الأهداف التي كانت ترمي إلى تغيير المشهد السياسي الذي كان يهيمن عليه نظام مبارك المستبد.
ولأن عدداً كبيراً من أنصاره، كانوا على علم بما يتمتع به الرجل من وزن دولي من العيار الثقيل، إضافة إلى خبرته الكبيرة في الميادين الدولية والمنابر الدبلوماسية، فقد تم استقباله عند عودته بحفاوة بالغة، من قبل العديد من النشطاء السياسيين والشباب، الذين رأوا فيه ملهماً لهم، لا سيما بعد معرفتهم بإعلان نيته للترشيح لانتخابات رئاسة الجمهورية شريطة “تعديل الدستور، وإجرائها تحت إشراف قضائي ورقابة دولية”.
نتيجة ذلك الإستقبال وما شهده الرجل من التفاف حوله، فقد شكّل بعد وصوله للقاهرة “الجمعية الوطنية للتغيير” بتاريخ (25/2/2010)، والتي ضمت في صفوفها عدداً كبيراً من رموز المعارضة من بينها قيادات في جماعة (الإخوان المسلمون)، حيث كان الهدف منها، الضغط على نظام مبارك؛ لإجراء تعديلات دستورية، وتحقيق العدالة الإجتماعية.
وبالفعل أخذت جماهيريته بعد ذلك تتسع دائرتها، بخاصة بعد الإنتقادات الشديدة التي وجهها لنظام مبارك فيما يتعلق بقضية توريث (جمال مبارك)، ليتحول فيما بعد إلى أشد المناوئين لسياسات الحزب الوطني الحاكم آنذاك.
بعد ذلك تحول الرجل من دور المشاكس لنظام (مبارك)، إلى دور “الأب الروحي” لثورة (25/1) وأيقونتها، التي أطاحت بمبارك. وكأن الرجل ما عاد إلى وطنه إلا من أجل مهمة واحدة وهي إسقاط مبارك.
وبعد سقوط مبارك، ولا نقول (نظامه)، تولى المجلس العسكري إدارة شؤون البلاد، فأعلن الرجل نيته الترشح لانتخابات رئاسة الجمهورية، ولكنه سرعان ما أعلن انسحابه منها؛ اعتراضاً على سوء إدارة المرحلة الإنتقالية، لتسفر الانتخابات بعد ذلك عن فوز (د. محمد مرسي).
بالطبع هذه النتيجة، لم ترق للرجل؛ لأنها لا تنسجم مع أفكاره ولا توجهاته، فأخذ على الفور بمهاجمة النظام الجديد، وعمل على التأليب ضده بخاصة عنصر الشباب الذي كان قد أعلن سابقاً بأن “حزب الدستور” الذي أعلن عن تأسيسه في (28/4/2012) مع مجموعة من المثقفين والنشطاء، جاء لكي يكون جامعاً للطيف الشبابي الثوري المصري، وهولاء بدورهم سرعان ما أصاخوا السمع للأب الروحي للحزب (د. محمد البرادعي)، فأخذوا بدورهم العمل على مشاكسة النظام الجديد وعرقلة مسيرته.
ومع اصدار (د. محمد مرسي) الإعلان الدستوري المكمل (22/11/2012) الذي حصل بموجبه على صلاحيات كبيرة، عاد (د. محمد البرادعي) بقوة – عقب ذلك الإعلان – إلى المشهد السياسي المشحون، ليقود مع رموز المعارضة ما أطلق عليه “جبهة الإنقاذ الوطني” التي تشكلت بتاريخ (22/11/2012) والتي تضم مجموعة من الأحزاب الليبرالية، والإشتراكية، والحركات الثورية .. الخ.
وكما أسلفنا سابقاً، بأن الدولة العميقة دخلت على جميع الخطوط والتحركات المناوئة لنظام مرسي، حتى وصل الأمر بها إلى إنجاب حركة “تمرد” التي تأسست بتاريخ (26/4/2013)، والتي قامت بجمع (22 مليون) توقيعاً – حسب ما أعلنته الحركة – لسحب الثقة من (د. محمد مرسي) والدعوة إلى انتخابات رئاسية مبكرة.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فبعد رفض هذه الحركة ورموز المعارضة لخطاب (د. محمد مرسي) الذي دعاهم فيه للحوار، وتشكيل لجنة لتعديل الدستور والمصالحة الوطنية، طالبت حركة “تمرد” جميع الموقعين للتظاهر يوم (30/6/2013) لإجبار مرسي على الرحيل، يؤازرها في ذلك (د. محمد البرادعي)، الذي تلا بيان “جبهة الإنقاذ الوطني” معلقاً على خطاب مرسي قائلاً: “عَكَسَ عجزاً واضحاً عن الإقرار بالواقع الصعب الذي تعيشه مصر بسبب فشله في إدارة شؤون البلاد منذ أن تولى منصبه قبل عام” مؤكداً بذلك تمسكه بمطالب جبهة الإنقاذ، الداعية إلى إجراء انتخابات رئاسية مبكرة، والتي كان يرفضها مرسي بشدة.
بعد حدوث تظاهرات (30/6)، وفي ظل الأجواء المحتقنة والمأزومة، قام العسكر في (3/7/2013) بعد اجتماعهم مع قوى سياسية، ودينية، وشبابية متواطئة ومغرر بها، بإذاعة بيان ألقاه وزير الدفاع (عبد الفتاح السيسي) أنهى فيه رئاسة مرسي، وعرض خارطة طريق سياسية اتفق عليها المجتمعون (عبدالفتاح السيسي، محمد البرادعي، شيخ الأزهر أحمد الطيب، والبابا تواضروس الثاني، وممثل عن حزب النور السلفي، وممثل عن حركة تمرد..) لينتهي المشهد بذلك بسقوط مصر في مستنقع الإنقلاب وحكم العسكر.
إذن يتضح من خلال ما سبق بأن (د. محمد البرادعي)، قد لعب دوراً بارزاً وفاعلاً في إسقاط الرئيس المنتخب “د. محمد مرسي” لينجح بذلك في إسقاط رئيسين وبزمنٍ قياسي. مما يدعونا إلى إطلاق لقب عليه يستحقه عن جدارة واستحقاق: (مهندس إسقاط الرؤساء).
بناءً على ما تقدمنا به من معطيات وأحداث، وتأسيساً على جميع ما سبق، فإن الأزمة المصرية تظل مفتوحة على عدة سيناريوهات تتمثل بما يأتي:
السيناريو الأول: لن تشذ مصر عن بقية أقطار القارة الإفريقية، التي تستحق أن توصف بـ (قارة الإنقلابات العسكرية)، حيث وصل عدد تلك الإنقلابات إلى (186) انقلاباً، منذ حصول أغلب دول القارة على استقلالها في بداية عقد الستينات من القرن العشرين. وقد تمخص عن تلك الإنقلابات نتائج كارثية، حيث أدت إلى مقتل حوالي (10) ملايين إفريقي، وحولت حوالي (40) مليوناً إلى لاجئين، كما ضربت المجاعة حوالي (50) مليوناً من سكان القارة؛ نتيجة تدهور الأوضاع الإقتصادية، وتقهقر الصادرات، وانهيار الموسسات السياسية، والإقتصادية، والتعليمية … الخ.
ولذا فإن مصر لم ولن تفلت من مخالب تكرار الإنقلابات العسكرية، التي كان آخرها ما قام به العسكر ضد نظام (د. محمد مرسي) الرئيس المدني الأول لمصر. وبما أن الإنقلاب العسكري أينما وقع يظل غير شرعي ولا قانوني، فليس من الغرابة بمكان أن نجد أصحابه – دائماً – يتصفون بنفسيات مضطربة ومتقلبة ولا يتمتعون إلا بصحة نفسية سيئة، ولأنهم كذلك فإنهم يعاملون شعوبهم معاملة المحتل الذي يرتكب الفظائع وهو يضع نصب عينيه: الغاية تبرر الوسيلة. ولأن الإنقلابيين دائماً أصحاب نفسيات مريضة وجبانة، فإننا نجدهم على حد تعبير “ميكافلي” “يضطرون إلى الوقوف دائماً وسيوفهم في أيديهم”.
ولأن الإنقلابيين يقودهم دائما دكتاتور، فإن هذا الدكتاتور يتصف بأغلب الحالات بعقلية إقصائية وبانعدام الثقة بمن حوله؛ وذلك خشية قيام أحدهم بإنقلاب ضده، أو خشية ظهور منافس له من داخل المؤسسة العسكرية، يقوم بسحب البساط من تحت قدميه، أو خطف الأضواء منه بخاصة إذا طرح ذلك الدكتاتور نفسه على أنه المخلص للشعب مثل (السيسي) ولعل أبرز مثال على ذلك، ما تعرّض له الفريق (سامي عنان) رئيس أركان الحرب السابق، من إقصاء يوم الإحتفال بالذكرى الأربعين لنصر أكتوبر للعام (2013) حيث لم توجه له دعوة للحضور، في حين وجهت لوزير الدفاع السابق المشير (حسين طنطاوي).
وقد كان ذلك الإقصاء بسبب ما نشره (سامي عنان) من مذكرات في بعض الصحف، مما أثار ضجة هائلة حول مغزى نشر المذكرات وتوقيت هذا النشر مع ذيوع معلومات حول نيته الترشح للرئاسة.
عطفاً على ما سبق، لقد أشار الكاتب المصري “سليم عزوز” إلى أن انقلاب الإعلام الموالي للسيسي على الفريق سامي عنان، دليل واضح على بداية الشرخ والإنقسام داخل المؤسسة العسكرية. كما أشار عزوز إلى أن تسريب فيديو السيسي بقيادات أفرع الجيش، والذي جرى في قاعة مغلقة يدل على أن هناك رجالاً داخل المجلس العسكري من أنصار عنان يريدون الإنتقام من وزير الدفاع ومنعه من الترشح.
وفي هذا السياق لقد أكد المفكر الإمريكي “نعوم تشومسكي” حقيقة ما سبق بقوله ” إن السيسي عجز عن تحصين تسجيلاته الخاصة من التسرب، واشتعلت الصراعات بين أجنحة العسكر سراً وعلناً، وقد قلت من قبل أن سقوط الإنقلاب لن يبدأ إلا إذا برزت وطغت خلافاتهم واختلافاتهم على سطح الأوضاع وهذا ما يراه العميان”.
إذن ظهور هذه الخلافات يؤكد على حقيقة ما شاع بعد الإنقلاب من وجود لمجموعة تدعى (الضباط الأحرار)، هذه المجموعة التي تشكلت عقب الإنقلاب المشؤوم على مرسي؛ ليفضحوا قادة الإنقلاب، معلنين بذلك إنحيازهم إلى الشرعية، ومسؤوليتهم عن تسريب الفيديوهات إلى شبكة “رصد الإخبارية”.
تلك المجموعة لم تتورع عن تهديد القيادة العامة للقوات المسلحة، وذلك عندما قرر الإنقلابيون محاكمة “مرسي” بتاريخ (4/11/2013)، في حال تعرض “مرسي” للإيذاء، لما سيكون له من ردة فعل قوية منهم ضد عائلة السيسي شخصياً، حيث تتم مراقبة ورصد جميع تحركات عائلة الوزير بالكامل داخل القاهرة وخارجها من قبل عناصرهم بالقوات المسلحة، كما قامت بجمع المعلومات الخاصة بعائلة الفريق السيسي، وتم وضعها تحت تصرف رئيس العمليات بمجموعة “الضباط الأحرار”؛ لاتخاذ القرار بتصفية جميع عائلته، في حال المساس بأمن الرئيس مرسي الشخصي.
إذن هناك عدد كبير من الضباط (المؤيدون لمرسي)، يتحركون على الأرض ضد الإنقلاب على الشرعية، وبما أن المؤسسة العسكرية قد تم اختراقها وحدث ما حدث، فإن أمر اختراقها مجدداً لصالح مرسي، يظل احتمالاً وارداً وقائماً.
ويبدو من خلال ما تتداوله الصحافة من حديث حول صراع داخل “الأجنحة العسكرية”، أن مسألة حدوث انقلاب جديد ضد الإنقلابيين، هي مسألة وقت لا أكثر وإن المتابع لتحركات هؤلاء الضباط عبر صفحتهم على “الفيس بوك”، يدرك بأن لديهم تحركات مدروسة ومتدرجة أبعد ما تكون عن التخبط أو العشوائية.
فما يقومون به حالياً من تسريبات لما يدور خلف الكواليس لقادة الإنقلاب، يدل على أن هدفهم الآن يتمثل فقط بزعزعة قادة الإنقلاب، وتشويه سمعتهم عن طريق الكشف عن نواياهم الخبيثة بالسعي للإستيلاء على السلطة لفترة طويلة تقودهم في نهاية المطاف إلى خلق نظام (سياسي – مدني) ظاهره بريء من تدخل العسكر، وباطنه عسكري خالص وبحت.
نستنتج من ذلك بأن مجموعة “الضباط الأحرار”، لديها قراءة دائمة لكل ما تفرزه الساحتان المحلية والدولية من مواقف تجاه الوضع الراهن، وبناءً على إفراز الساحتين يتحرك هؤلاء الضباط بما يقتضي عمله لعرقلة وإفشال مخططات قادة الإنقلاب.
وبما أن الجيش المصري – وفق ما أكده محللون عسكريون – ليس على قلب رجل واحد كما يدعي الفريق السيسي، بل إن فيه مجموعة كبيرة من قيادات الجيش يرون فيه الرعونة، والتهور، وفقدان الحكمة والإتزان بخاصة بعد إستخدام العنف الذي خلف الكثير من الضحايا، وأوجد بين الشعب والجيش جرحاً لن يندمل، فإنه من المحتمل أن تقود تلك التصرفات، أنصار مرسي إلى تحويل شكل رفض الإنقلاب من مظاهرات واحتجاجات، إلى الرد بالمثل أي اللجوء إلى سياسة العنف المضاد ضد قادة الإنقلاب كأن يقوموا بعمليات إغتيال أو تفجيرات من شأنها أن تعمل على رفع وتيرة حدوث انقلاب مضاد على أعداء الشرعية وقياداتهم العسكرية.
وإذا ما حدث ذلك، فإن قادة الإنقلاب الجديد، سيسارعون إلى تسليم السلطة إلى صاحبها الشرعي المعزول (مرسي)، لينكفئوا بعذ ذلك إلى لعب دور “حرّاس الشرعية” وحماة “الديمقراطية”. وفي هذه الأثناء، سيقوم مرسي بالتكفير عن أخطائه السابقة، عن طريق عدم احتكار السلطة وبالتالي دعوة الجميع للمشاركة فيها.
هذا الأمر سيجعل جماعة “الإخوان المسلمون”، تمد أبصارها نحو “البرادعي”، الذي قدم لهم معروفاً في استقالته من منصبه التي عرّى من خلالها قادة الإنقلاب.
وبهذا الصدد فقد أشادت الجماعة الإسلامية بموقف البرادعي، الذي استقال من منصبه في حكومة الإنقلاب نائباً للرئيس المؤقت عدلي منصور للشؤون الخارجية وقالت “إنا نقدر له هذا الموقف، رغم الخلاف بين الجانبين في العديد من المواقف” كما قالت الجماعة عن استقالته “لقد استقال من حكومة الإنقلاب، بعد كثرة جرائمها والتي رأى فيها خروجاً على منهجه الليبرالي وضميره الإنساني، “ووصفت الجماعة الإسلامية موقفه هذا بأنه “حاسم جاء في توقيت دقيق وعجز الكثيرون عن القيام بمثله”.
(يتبع الجزء الأخير)
للمتابعة على الفيس بوك: الدكتور محمد السنجلاوي