الدكتور رجائي يكتب
وكالة الناس – د. رجائي حرب
سبعةُ وتسعون عاماً على مؤامرة صك الانتداب البريطاني على فلسطين والأردن
29 أيلول 1922.
لا يخفى على أحدٍ من الاردنيين اليوم حقيقةَ الصعوبات والضغوطات الهائلة التي تحاول النيْل من كينونة الانسان الاردني وثوابته المتعلقة بالايمان المطلق بالوطن، وتشبثه بترسيخ فكرة البقاء والاستمرار وسط كل هذه الفوضى المخيفة في المنطقة؛ والتي أسقطت عروش عديدة؛ ومزقت دولاً عديدة، وأهرقت دماء كثيرة في فاجعةِ ما يسمى بالربيع العربي؛ ما عزز تلاحم الأردنيين وتمسكهم بمنظومة الأمن والصراع مع الظروف المحيطة من أجل البقاء؛ وما زالوا يعضون بالنواجذ على عُرى الوطن، ويتمسكون بشراعه وسط كل الأمواج العاتية التي تنشر العبث والفوضى في الارجاء؛ ولأنهم بدأوا يشعرون من خلال صبرهم اللامتناهي وانتظارهم اللامحدود؛ أن حالهم يتأزم يوماً بعد يوم، دون أي انفراج أو أمل بالخروج من المأزق المعقد.
كل ذلك يعيدنا للنظر في مقدمات المؤامرة الكبرى التي أملتها علينا الظروف السياسية القاسية التي مرت بها منطقتنا بدايات القرن الماضي، حين أعلنت عصبة الأمم مشروع الانتداب البريطاني على فلسطين وشرق الأردن، والذي وُضع موضع التنفيذ في 29 أيلول عام 1922 ومثَّل أطماع الحركة الصهيونية وبريطانيا وفرنسا في بلادنا حسب ( اتفاقية سايكس بيكو عام 1916) والتي نتجت عن وعد بريطانيا لليهود بإقامة وطنٍ قوميٍ لهم في فلسطين, والذي كان يشمل كما هو معروف ( الأردن وفلسطين معاً )
واحتوى صك الانتداب في مقدمته ما نص عليه ( وعد بلفور) المشؤوم، واحتوى على 28 مادة, منها المواد ( 2 و 4 و 6 و 7 و 11 و 22 ) التي تم تخصيصها لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وتشجيع الهجرة اليها, والمواد (1 و3 و21 و17) اهتمت بالمصالح البريطانية, وأعطتها السلطة التامة في التشريع والإدارة.
وكانت المادة الأخطر في هذا الصك هي المادة ( 25 ) من صك الانتداب التي تتحدث عن (شرق الأردن) والتي نصت على أنه: ( يحق للدولة المنتدبة ( أي بريطانيا )؛ بموافقة مجلس عصبة الأمم أن ترجئ أو توقف تطبيق ما تراه غير قابل للتطبيق على المنطقة الواقعة ما بين نهر الأردن والحد الشرقي لفلسطين كما سيعين فيما بعد بالنسبة للأحوال المحلية السائدة في تلك المنطقة وان تتخذ ما تراه ملائما من التدابير لإدارة تلك المنطقة وفقا لأحوالها المحلية بشرط ألا يؤتى بعمل لا يتفق مع أحكام المواد 15، 16، 18 من الصك نفسه)؛ أي بمعنى تأجيل تطبيق مؤامراتهم وما تم الاتفاق عليه على إمارة شرق الأردن حسب رغبة بريطانيا كدولة منتدبة على الأردن إلى الوقت الذي تراه مناسباً، وبالتالي فقد شرعت بريطانيا بإنشاء كيانٍ سياسيٍ شرق الأردن وفي نيتها البائنة بينونةً كبرى تحقيق وظيفةٍ كانت تريد تحقيقها وعلى مراحل تبدأ بقضم فلسطين كما حصل خلال حرب 1948 وحرب 1967 ثم تنتهي بالأردن لإيصاله لمرحلةٍ يأكل بها نفسه من الداخل وبذلك يتم وضع اليد عليه والتصرف به كيفما يشاؤون.
وما يحدث في الاردن الآن من ضغوطات ومؤامرات، ونشر فساد، وإفقاد الثقة بالمؤسسات الوطنية، وتغييب القيادات التي تشكل الروافع الحقيقية للتنمية، ونشر الفتن وعمليات التفقير، وفرض الضرائب، وبث الإشاعات الهدامة بقرب انهيار الدولة وسقوط العملة والاقتصاد، وتآكل بنية الدولة العميقة، وفشل منظمات المجتمع المدني، ما هي الا برامج ممنهجة لتفكيك الدولة الاردنية وإسقاطها من داخلها لمصلحة المشروع الصهيوني المدعوم بريطانياً وأمريكياً وغربياً بالمطلق؛ كسياسةٍ هادفةٍ لإفشال مسيرة الأردن وإجبار شعبه على قبول المشروع الصهيوني بصيغته النهائية المتمثلة بصفقة القرن.
إن الأردن الذي وقع معاهدة سلام مع الجانب الاسرائيلي-كخيارٍ استراتيجي- في وادي عربة ما زال شعبه يعتبر إسرائيل العدو الأول له وللأمة العربية، ما دامت ترفض الانسحاب من الاراضي العربية، وترفض الانصياع للشرعية والعدالة الانسانية، وما زال هذا الشعب يؤمن أيضاً بأن إسرائيل ستبقى تسعى لتحقيق حلم إسرائيل الكبرى، كما ويؤمن هذا الشعب العظيم بأن الغرب لن يدعم الحق العربي يوماً من الأيام لاسترداد أراضيه، وسيعمل جاهداً على إنجاز النصف المؤجل من صك الانتداب بقضم الأردن وتذويبه أمام إسرائيل؛ ولكننا كأردنيين وُلِدْنا على هذه الأرض وأكلنا من خيراتها وشربنا ماءها ودافعنا عنها بالمهج والأرواح على مدى سبعةٍ وتسعين عاماً، وبالتالي فلن نسمح بمرور مخططات التذويب والتجويع- إلا على أجسادنا، وسنصرخ بأعلى صوتنا رافضين كل المشاريع والمؤامرات كي يستيقظ النائمون والمغيَّبون، وينتبه الغافلون في مدننا وقرانا وبوادينا ومخيماتنا لنكون جبهةً وطنيةً تكون متماسكةً كالبنيان المرصوص تحمل أهدافاً واضحةً لدخول المستقبل بإذن الله.
إننا نؤمن بأن الغرب يحمل قناعاتٍ زائفةٍ ومغلوطةٍ بناها في لحظة ضعفنا وتغييبنا عن واقع الاحداث في بدايات القرن الماضي عندما حصل على صك الانتداب المشؤوم من عصبة الأمم، وضمنه اتفاقية سايكس بيكو ووعد بلفور ومقررات مؤتمر سان ريمو التي تلاعبت بجغرافية منطقتنا حسب رؤيتها وبما يخدم مصالحها، ونحن ندفع الآن ثمن ذلك التغييب؛ ما يفرض علينا الانتباه والتركيز لتفويت الفرصة السانحة لهم وجعلها ممنوعةً عنهم بتعاضدنا وتلاحمنا كأردنيين وبناء قراراتنا الصلبة لأنه: (إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر …. ولا بد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر).
إننا كشعبٍ أردنيٍ أمام تحدٍ كبير يفرض علينا معادلة أن نكون أو لا نكون؛ ولا بد أن نُقدِّرَ عِظَمَ المرحلة القادمة وأن لا نسكت على الضيم والغبن الكامن في إرادة الغرب ورغبته بإنجاز الجزء المؤجل من صك الانتداب ووعد بلفور على ظهورنا؛ وأن نظهر كقوةٍ واحدةٍ تسير على قلب رجلٍ واحدٍ لتثبيت عرى الوطن ودعم مسيرته والمحافظة عليه من أعداء الخارج ومنافقي الداخل؛ وليس غريباً على الأردنيين مثل هذه المواقف في اجتياز اللحظات العصيبة وتحويلها إلى فرصةٍ جديدةٍ لبناء وطنٍ متماسكٍ وسط العاصفة؛ لأن هذا الوطن ( وٌلِد في النار ولم ولن يحترق ) ما دام هناك شعبٌ لا يُقهرْ.