” الدُغْرِي”
قدّم الفنان السوري ” غوّار” أدوارًا تمثيليّة رائعة، حظيت بالشهرة، ولقيت تقديرًا من قبل قطاع واسع من متابعي شاشة التلفاز. ولعلّ أبرز هذه الأدوار وأهمَّها تقمّصه شخصيّة “ابراهيم بيك الدُغْرِي” من مسلسلات بداية تسعينات القرن الماضي.
واختار الكاتب اسم (الدُغْرِي ) لبطل روايته؛ ليلحظ القارئ (المشاهد) حجم المفارقة بين الاسم والواقع، فهما على طرفي نقيض، فكلمة (دوغري) كلمة عثمانية الأصل، انتقلت إلينا منهم، لكنّها تلفظ عندهم هكذا:(دوغرو) (dogru) ومعناها (مستقيم) أو (صحيح).
ويقول بعض العامة أيضا:(دوز دوغرى) كناية عن المبالغة في الاستقامة، وأصلها في اللغة العثمانية، (دوس دوغرى) (dosdogru) وتعني مستقيم بالغ الاستقامة، أو صحيح بالغ الصحة.
وتجسّد رواية الدُغْرِي التي كتبها الكاتب التركي (عزيز نيسين) شخصيّات من واقعنا المَعِيش، ولعلّ بطلها الدُغْرِي محور الرواية (المسلسل) يلامس واقنعا بصورة صادمة؛ فمن خلال تتبع أطوار هذه الشخصيّة، تدرك مدى عمق هذه الشخصيّة الفذة والمبدعة، وقدرتها في الدهاء، واستخدام أساليب التحايل والتزييف لتحقيق النجاح تلو النجاح.
ولم يكن الدغري صادقًا في مشاعره اتجاه من يحبهم؛ لأن الحبّ الحقيقي تجرّد من الأنانيّة وحظوة النفس، وهو مساحات واسعة من الأمل والتضحية والرحمة، وفهم للآخر واحترامه. وهذا لم يتصف به.
وكانت معظم الشخصيات الرئيسية خارج اطار العمل الزراعي، مع أن الأحداث تجري في قرية زراعية، منسية، تظهر الأحداث عجز سكانها عن الاتصال بمحيطهم وبخاصة العاصمة. وهذا له دلالات خاصة، قد تشير إلى انقطاعها عن واقعها وبيئتها اللصيقة بها، أي بعد شخصياتها عن واقعهم الحقيقي.
وقد بنى الدُغْرِي تاريخًا مزيّفًا لعائلته، فجعل لوالده مقامًا رفيعًا، ولجده مقامًا مزورًا، فهو الباشا الشهيد، فسلّم من حوله بهذا التاريخ المُزّيف رغبة ورهبةً، وهم الأعلم بأنّ كُلَّ ما يقوله محض افتراء.
والمتتبع لحياتنا يجد أن شخصية الدُغْرِي تتكرر كل يوم وباستمرار، فكم من شخصيّة سياسيّة واجتماعيّة انتهازيّة تدور الآن في ذهن كل واحد منّا، انفلتت من عقالها؛ لتحقّق مآربها تحت شعار الغاية تبرر الوسيلة.
ويسير “الدُغْرِيون” وفق منهجٍ يتعاملون به مع الآخرين، فهم يكذبون، ثُمّ يكذبون من خلال عملية متواصلة من ضخ الأكاذيب لتتراكم، وتكون جبلاً من الأكاذيب. ومع مرور الوقت وتحقيقهم بعض المكاسب، تتحول هذه الأكاذيب في نظر بعض الناس إلى حقيقة، ثُمّ يصدق الكذّابون ما خلقوه من كذب وتزييف، فيخدعون أنفسهم. ألم يصبح دون كيشوت الفارس الوهمي ذو الدرع الصدئة والحمار المتهالك رمزًا عالميًّا لمن يلوح بسيفه الورقي ليهاجم طواحين الهواء العملاقة التي سوف تقتلعه وحماره لتحلق به في الهواء، ثم ترميه على الأرض ليرتطم بالحقيقة، ولكنه مع ذلك يقوم، ويعاود القتال في معركة أكيدة الخسارة؟ ألم ترى أنّ “الدُغْرِي” حرص على بناء مقام لجدّه التقي الورع الشهيد؟ ألا يحظى إرث الأجداد في حياة الأردنيين بأهمية كبيرة، ويكاد لا يفارق طاولة سَمَرهم، ويشغل جُلّ الحديث إذا اشتدّت قرائحهم للفخر؟
وقد يتسلل “الدُغْرِي” إلى مرابط قلوبنا، ونحن في غفلة عنه، فمرات عديدة أختلس النظر، فأجد ملامحه بين ثنايا كلامنا،” بعيد عنكم”، فأتصارع معه يهزمني مرة، وأهزمه مرات. “الدُغْرِي” هو دعوة لإيقاظ المواطن العربي من سباته العميق، ونقد لكل ما هو خطأ في المجتمع العربي، وبصيرة للمشاهد بمآسي الإنسان البسيط الذي يسمح ” للدُغْرِي” أن يتمدّد داخله، وفي مجتمعه في ظل غياب الوعي.
د أجمل الطويقات 4/7/2019