” كل الحق على الحَكَم المصري”
لم تتوقف يد الفاسدين المفسدين عن محاولة العبث بالنظم الاجتماعية والثقافية المتأصلة في أردننا الحبيب، فاستثارت الغيارى للتصدي لهم، وحماية الهويّة الثقافيّة، وعمادها الهويّة الدينيّة، فهاجموا منذ نشأة الدولة الأردنية موظفي الانتداب البريطاني بكثير من السخريةِ والمرارة. ولعل عرارًا كان من السّباقين إلى التنويه إلى خطر المفسدين وظلمهم، وأذنابهم الذين ينفثون سمومهم في بنية المجتمع الأردني، مستهدفين قُوتْه وقِيَمه، فسلّط الضوء على أبرز صور الظلم، التي تجلّت في غياب العدالة الاجتماعية، وتفشي الفقر، وبعض مظاهر الفساد الأخلاقي، في حين انشغلت عمان – وقتها- بإبراز الأوسمة والألقاب والحفاوة بالقصور، مخفية ملمحًا حقيقيًّا لوجهها كما رآه عرار؛ فهي تخفي عَجْزها وقُصُورَها عن تحقيق الاصلاحات الحقيقية التي كان ينشدها عرار، فحمل لواء الدفاع عن قضايا مجتمعه حين رأى الأكلة تتداعى على فقراء وطنه ومساكينه وفلاحينه, فجاءت قصائده العذبة والبسيطة صورة عن واقعه، تشعر السامع لها بإحساس قائلها المرهف, ومدى الأسى الشفيف والحزن البالغ الذي عايشه في سبيل الدفاع عن وطنه، والوقوف مع المستضعفين, فضلا على حجم الوعي المبكر الذي كان يتصف به عرار اتجاه ما كان يحيق بالأمة من أخطار. وكانت تلك القصائد حصيلة مواقف صادقة, أثبت من خلالها الشاعر عرار مدى التزامه بقضايا وطنه, فلم يكن يهادن ولا ينافق على حساب مصلحة الشعب والوطن؛ مما عرّضه للنفي والعزل والسجن، فانتهى به الأمر إلى حالة من اليأس والاحباط من تحقيق الإصلاح والتغيير, الذي كان حلما يراوده منذ طفولته, يقول في قصيدة”
هبّ الهوا “: وشـــــــجــــــــــاك أن نَسَيمَـــــــــــــه في ضِفةِ الأردنّ ريـــــــحُ سمــــــــــومِ وأنا وأنت أذلُّ من وتَــدٍ ومـــن عِير بإسطبلِ الهـــــــوانِ مُقـــــيــــــــــمِ والشعبُ أضيعُ عندهم من سائِلٍ قـــذرٍ يمـــــــدُّ ذراعــــَـــه للئيـــــــــــــــــــمِ والمرهقوه علـى حسابِ شقائـِـه بمناعــــــةٍ من بؤســـــِــه ونعيـــــــــمِ لا يستقيمُ الظــّـــلُ يا ابن أخـــي إذا ما كان أصلُ العودِ غيـرُ قويــمِ وفي قصيدة ” بقايا ألحان وأشجان ” يقول: رفـــعت كلّ وضيــــــــــعٍ لا يُقـــامُ له إلاّ بســـــــــــوق الخَنا وزن بميــزانِ وقلتُ: أولاءِ قومي ينهضون بكم وحسبكم أنهم من خــيـــر أعوانـي هلاّ رعيت، رعــــــــاك الله حرمَتَنــــا هلا جزيت تفانينا بإحــــــــــــــــسانِ؟! مولاي شعبــُكَ مَكلومُ الحشا وبه مـــن غضّ طرفك والإهمال داءانِ وليـــــس ترياقه يا سيّدي وأخي في نــاب صـــلّ ولا في سنّ ثعبـانِ مولاي إنّ المطايا لا تسيـــرُ إلى غاياتِــــها إن علاها غيـــرُ فُرســـانِ لقد فاق الفساد حجم استجابة باحثينا ومثقفينا للتصدي له، فلم يُغفلوا الإشارة إليه، ولعل صوت عرار يعاود الحضور في كل مرة، ويأتي اليوم على لسان الشاعر حيدر محمود في قصيدته التي ألقاها في الذكرى الأربعين لرحيل عرار تحت عنوان نشيد الصعاليك، يقول: عفّا الصفا وانتفـــــــــى، يا مصطفــــــى وعلــــــــت ظهورَ خير المطايا شرُّ فرســـــــــانِ فلا تلم شعبك المقهور إن وقعــــــــت عينـــــــــاك فيــــــــه على مليـون سكـــــــــــــــــــران! قد حَكّمــــــــــوا فيه أَفّاقين، مـــا وقفوا يومًـــــــــــــا بإربدَ أو طافوا بشيحــــــــــــــــــــــــــــانِ ولا بـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوادي الشّتا ناموا ولا شربوا من ماءِ راحوبَ أوهاموا بحسبان! فأمعنوا فيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه تشليحاً وبهدلةً ولم يقــــــــلْ أَحدٌ كاني.. ولا مانــــــي! ومن يقـــــــــــولُ وكلُّ الناطقيــن مَضَوْا ولم يَـــــــــعُدْ في بلادي غيـــــرُ خُرســانِ! ومن نعــــــاتب والسكــين مــــــن دمنــــــاومن نحاسب، والقاضي هو الجانـي؟ يا شاعرَ الشعب صار الشعب مزرعة لحفنـــــــة من “عكــــــــــــاريت” و”زعران”! لا يخجلون، وقـد باعــــــوا شواربنـــــــــا من أن يبيعوا اللحــــى في أي دكان !
و كان إهدار المال العام نتيجة سياسات اقتصادية خاطئة، وتلبية لخدمة مصالح فئات معينة، إذ اقترن هذا الإهدار بغياب واضح لمعاني الحكومات الرشيدة، وعقلنة استغلال الموارد التي بقيت حبرًا على ورق. ألا يمكن الإقرار بأن لا إرادة جادة حتى اليوم للخروج من الأزمة، في ظل تعاقب الحكومات دون تحقيق إصلاح حقيقي يشمل الاقتصاد والمجتمع، في أجواء يسودها الإحباط لدى شبابه ومثقّفيه؟ وزاد الطين بِلَّةً بروز فحيح الأفاعي الداعية إلى المجون، إذ حرص الفاسدون المفسدون على سحب المجتمع إلى حضيرتهم، وبذلوا جهدًا مبرمجًا لتحقيق هذه الغاية، فهم يعدّدون طرقهم وأساليبهم، تحت غطاءات مختلفة، ويتخذون قنوات متعددة، فتارة تحت شعار الفن، وتارة تحت مظلّلة السياحة، أو متخذين من شعارات الحريّة والتعدديّة وحقوق المرأة والتعبير عن الذات غطاءً لوجههم الكالح المشؤوم. ويخرج علينا بين فَيْنة وأخرى من يزعمون الفن والإبداع بحرب لا هوادة فيها، حرب تستهدف الفكر والقِيم والأسرة، فما يُقدّم اليوم يتصف بالإسفاف والقبح، وهم بذلك يؤكدون طريقهم نحو إسقاط كل ما هو شريف ونقى وطاهر، وأن الإبداع عندهم لا حدود له ولا قيد وإنْ كانت نتيجته هي الدمار والهدم لقيم الغالبية الساحقة من المجتمع، ولكنّنا نراهم لم يقدموا من الابداع إلا أقذره ومن الفن إلا هابطه وسافله. وتعدّ ممارسة الحريات بطريقة عشوائية سببا رئيسيَّا؛ لانبثاق ظاهرة الانحلال الأخلاقي، ولعل الدافع الأساسي يَكمُن في حالة غياب المصلحين التي عايشتها المجتمعات العربية طيلة حقبات زمنية من القهر والاستبداد، ووجود أيدي خارجيّة تدفع بوسائل شتّى، ومنها أذنابهم بيننا لإطلاق العنان لغرائز الشباب، فيتحول هؤلاء إلى بهائم تدفعهم غرائزهم لتحقيق أهدافهم بغض النظر عن الأضرار الناجمة في المجتمع. وخطر هؤلاء المُنحلّين لا يَقلّ عن الإرهابيين التكفريين، فهما في سلة واحدة؛ لذلك وجب إعمال العقل عند ممارسة الحقوق والحريات دون تهديد لكينونة المجتمع؛ لغاية تجنب كل مظاهر الأنانيّة، فإنه من المخزي أن يُمثّل الشخص تهديدًا لديمومة مجتمعه، فيصبح هؤلاء المحرك الأساسي لتدمير الوطن والأمة في ظل حاجة الأردن إلى الوحدة والانسجام خلف القيادة الرشيدة. ألا يشكل غياب معاني الحب والتسامح الدافع الأساسي لانصهار الإنسان في دلالات العنف والصراع والاغتراب؟ ألا يمكن الحديث هنا عن التدمير الذاتي للإنسان؟ وكان لِزامًا على عقلاء وطني الشرفاء ألّا يتركوا مستقبل الأُسرة وأخلاق المجتمع في قبضة الساقطين الداعرين المنحلين بحجة الحرية الفردية واحترام الأقليّة، ولعلّ ما أُصبنا به من هزيمة في مجال محاربة الفساد الاقتصادي مرهون بهزيمة أخرى وهي الفساد الأخلاقي، فالأخيرة مقدمة حتميّة للأولى، ولا بدّ من ربط جميع هذه الخيوط في سنّارة واحدة ليعظُم الصيد. ألا إنّ صلاح الحال لن يكون إلا بالعودة إلى الطهارة والقضاء على الانحلال الخلقي، وإنهاء احتكار الفاسدين والناشزين على السياسة والإعلام والإبداع، وبناء الدولة على مقياس الكفاءة والعدل والمساواة. بين عرار وهزاع ووصفي والأردنيين حبل متين، فمن يوثقه اليوم؟ أم أنّ الحكم المصري يتحمل وزر الموضوع بِرُمَّتِهِ؟ د أجمل الطويقات