لكي يكتمل الأمن كقيمة عامة
لقد أنعم الله على الأردن بالأمن والأمان الذي صار سمة من سمات الأردن ووصفا ملازما لحياة الإنسان بالأردن. وذلك يعود لطبيعة النسيج الأردني المتمثل بترسخ فكرة العشيرة التي لا تسمح أعرافها وعاداتها وتقاليدها بخروج أبناء العشيرة عن الخطوط العريضة التي خطها وآمن بها المد العشائري. هذا بالإضافة لمنظومة القيم والمثل والمبادىء الدينية والإجتماعية التي آمن بها المنتمون لعشائرهم.
ومع الزمن تولدت بعفوية فكرة الفرد للجماعة (العشيرة) والجماعة للفرد بشكل تلقائي بعيدا عن التلقين والتغذية من المدارس الفكرية الحديثة. وقد ولدت هذه الروح بين أبناء العشائر كنتيجة ومحصلة للظروف الصعبة والحياة القاسية التي كانت تعيشها العشائر كتجمعات سكانية ذات هم واحد ومطلب واحد يتلخص بطلب الحياة الآمنة للأبناء والأنعام التي كانت مصدر قوتهم الأهم.
من الأسباب الرافدة لسمة وجود الأمن بالأردن، خروج أجهزة أمنية من رحم هذه العشائر لديها إيمان راسخ بفضائل الأمن ومزاياه التي تنعكس على حياة الناس بمختلف أطيافهم ومواقعهم. كما أن وجود رعاية خاصة تليق بمن يسهرون على الأمن من قبل القيادة كان يلعب دور الداعم والمثبت لتلك الأجهزة لكي تتفانى أكثر فأكثر مما عزز ورسخ قيمة الأمن وما يمكن أن يفرزه من انعكاسات على الإنتاج والإستقرار والإستثمار.
والعشيرة التي هي نواة المجتمع الأردني وقامت الدولة على أساسها وارتكز النظام عليها، صارت الرديف المنيع والصلب الذي يستمد الأمن عزمه منه. والأجهزة الأمنية بلباسها الظاهر والسري هي صورة حديثة وعصرية تتماشى مع باقي الدول بهذا المجال. ولهذا صار من السهل تمييز الخارجين عن هذا العرف وهذه الروح كما صار من السهل أيضا لفظ الخارجين عن قيم العشيرة التي يتغذى عليها الأمن. والخارج عن قيم العشيرة ومثلها وأعرافها وتقاليدها يعد جسما غريبا تلفظه العشيرة مستندة على قضائها الخاص.
رب قائل أن هناك كثير من الدول التي تنعم بالأمن والأمان والأردن لا يتفرد بذلك. نعم، لكن الإختلاف بين الحالتين أن الأمن المتوفر بالأردن نبع بالأساس من الوحدة العضوية للعشيرة والإيمان بأن وجود خطر يهدد فردا من العشيرة يعني تهديدا للعشيرة كافة، ولذلك ومن منطلق مسؤولية العشيرة تجاه أبنائها كانت تهب لحمايته. أما الأمن في الكثير من البلدان الأخرى قام بالأساس على الترهيب والخوف من السلطة التي سلكت نهج القوة لفرض الأمن. وهذا يبلور الفرق بين أمن الأردن النابع من الإيمان بضرورته وبالتالي إقراره ليصبح قيمة أخلاقية حياتية ذات مساس بشؤون الناس اليومية، بينما الأمن عند الفريق الآخر جاء كنتاج للقوة لفرض السلطة ولم يصبح قيمة يتمسك بها المجتمع.
رغم أهمية الأمن وكونه ضرورة وحاجة تزيل عراقيل الحياة اليومية وتسهل عمل الناس والحركة والتنقل دون قلق أو خوف من مجهول، إلا أن الإستمرار بالتفاخر بالأمن وإقناع النفس أنه الترياق الذي يعالج الأمراض ويفوق الإقتصاد أهمية ويسمو على متطلبات الحياة الأخرى ويتقدم على العدالة الإجتماعية وبوجوده تلتئم الجراح اللتي أفرزها الفساد، فما تلك إلا فكرة للأسف يؤمن بها السذج ويرددوها بأحاديثهم ومجالسهم وحتى بعض المثقفين المتحذلقين يتبنونها تبركا وتزلفا لأصحاب السلطة والسلطان.
وللأسف نلاحظ أن تسويق وترويج فكرة استتباب الأمن صارت حديث من لا حديث له وفكرة تتردد على ألسنة الكثيرين الذين تنقصهم رؤية الصورة كاملة ويكتفون برؤية الجزء الظاهر أمامهم فقط. وهناك فريق يروج فكرة الأمن كوسيلة للترهيب غير المباشر إذ يقصدون بالأمن عكس السرقة والسطو والقتل والإعتداء أي يعكسون مفهوم الأمن وكأنه فقط لمحاربة الجريمة المتمثلة بالقتل والإعتداء وقطع الطرق وما شابه.
هناك ما يسمى الأمن الغذائي والدوائي والأمن الوظيفي والمائي والإقتصادي. فالمسوقون لفكرة التفاخر بالأمن بمعناه الحرفي، هل وضعوا بحسابهم فيما إذا كانت انواع الأمن الأخرى متوفرة ومعتنى بها ومرعية مثلما هو الإعتناء والرعاية للأمن بمفهومه البوليسي؟؟
هل غذاؤنا آمن من التلاعب والفساد؟؟ لا، فنسمع كثيرا أن أطنان من المواد الفاسدة تتلف ثم نراها بالأسواق إذ يتم الإفراج عنها بتدخل المتنفذين الذين لا هم لهم إلا الإغتناء على حساب نوعية حياة المواطن ولقمة عيشه.
هل دواءنا آمن ومؤمن ومتوفر عندما نحتاجه من المستشفى؟؟ بالطبع لا، لأن ما يتم التبرع به للآخرين من أجل الإنسانية والأخوّة ومن أجل أن يظهره الإعلام، هو ما يجعل بعض الأدوية الضرورية والدورية تفتقد من صيدليات المستشفيات. أليس أهل البيت أولى بالمعروف؟؟
هل وظائفنا آمنة خصوصا بالقطاع الخاص؟؟ ألف لا، لأن سرعان ما يُكتشف أصلك وفصلك، تبدأ تحوم الشياطين حولك للإجهاز عليك. وهنا لا نعمم لكن هناك الكثير من الحالات المخزية والمحزنة وكاتب هذه السطور أحد ضحايا هذا الأمن المنقوص. والوظيفة بالمجال الحكومي كثيرا ما تعتمد على الواسطة والمحسوبية والعلاقات الشخصية، فإن كنت من المنافقين والمتزلفين فترتقي وتوضع بالموقع الذي تختار، أما إذا كنت مستقيما وتعمل حسب متطلبات وظيفتك ولا تطلب إلا رضى ربك، فأنت عرضة لتأخير الترقية أو النقل والإبعاد لمكان لا ترغب به.
هل ماءنا آمن ؟؟ أيضا لا، اسرائيل تتحكم بمياه نهر الأردن وقد خلطتها بمياه مجاري بغياب الرقابة الأردنية أو ربما وجود نوع من التغاضي. حوض الديسي تعقدت مسيرته حتى صار قدسا أخرى. مناطق كثيرة تغيب عنها المياه لأكثر من شهر ووزارة المياه منشغله بتأمين المياه لأهل عمان الذين وحدهم يستحقون توفر المياه على مدار الساعة.
هل اقتصادنا آمن ؟؟ بالتأكيد لا، وقد دخل غرفة العناية الحثيثة منذ زمن ولم يخرج منها بعد، ونتمنى له الشفاء العاجل صحيحا معافى. والذين أوصلوه لهذا الحال هم كبارنا ومن ولوا علينا وهم المؤتمنون والحائزون على الثقة المطلقة إذ كانوا يبيعون ويخصخصون ويقبضون المقابل على حساب الوطن والمواطن والإقتصاد فلا يطالهم القضاء ولا يطبق عليهم قانون. الضرائب المرتفعة أهلكتنا والأسعار أفرغت جيوبنا وابتلينا برئيس حكومة دائم القلق والتفكير باختراع قرارات تزيد الفقير فقرا والغني غنى.
• فهل الأمن يوفر لنا الغذاء الصحي؟؟
• وهل أوقف قافلة دواء حرصا على توفيره للمواطن؟؟
• هل الأمن وفر لنا وظائف أمن آمنه من شياطين التنفير والإبعاد؟؟
• هل الأمن منع مياه المجاري من أن تدخل جوفنا؟؟
• هل الأمن منع أسباب المرض الإقتصادي والمتمثل بالفساد وأربابه؟؟
الواقع جعلنا نصرخ بملء فينا بــ”لا” كبيرة ومن لديه ما يثبت عكس ما نقول، سنقدم إعتذارنا له ونتراجع عن طرحنا بعد ما يقدم لنا الأسباب الموجبة لبطلانه. هذا مع إيماننا المطلق بضرورة الأمن والإقرار بتوفره بنوعه البوليسي. ولتكتمل قيمة الأمن ولنكون منصفين مع أنفسنا نتمنى أن نرى الأمن متوفر بكافة أشكاله التي يجب أن تطال كافة مناحي حياة الإنسان الأخرى.
وحمى الله الأردن والغيارى على الأردن. والله من وراء القصد.
ababneh1958@yahoo.com