حفرة الميت
حفرة الميت
تناقلت العديد من المواقع اليكترونية صوراً مخيفة للساحل الشرقي من البحر الميت تبين تزايد عدد حفر الإنهدام Sinkholes وهي ظاهرة نادرة الحدوث، ولكنها طبيعية، بمعنى أنه ليس للجن، أو ظهور قوم عاد، علاقة بذلك كما دوَّن العديد من المُعلقين على الخبر.
ولتوضيح الظاهرة، لا بد من العودة إلى رأي العلماء، حيث حذر البروفيسور نجيب أبو كركي/ عميد كلية العلوم في الجامعة الآردنية من ذلك في العام 1997 وتكرر إهتمامه بالظاهرة لدرجة أنها استنزفت الكثير من وقته، فعمل على التعاون مع خبراء أجانب من أمثال الدكتور داميان كلوسون Closson من الأكاديمية الملكية العسكرية في بلجيكا، الذي اصطحبنا معه إلى المنطقة قبيل اليوم العلمي الذي عقد في شهر أيلول من العام الماضي في عمان لمناقشة هذه الظاهرة، وما شاهدناه كانت علامات تنذر بما هو خطير.
لقد تشكل البحر الميت في موقع حفرة إنهدام، فهو بالتالي على منسوب منخفض يعتبر الأقل على مستوى الكرة الأرضية. ومن المعروف بأن مياه الأمطار والأنهار والمياه المتدفقة من الينابيع على شكل سيول، تسلك طريقها بالإنسياب الطبيعي من الأعلى إلى الأسفل، فتستقر في البحار والبحيرات.
لقد كان نصيبنا في الأردن أن ننعم بهذه البحيرة الكبيرة التي تحولت مع السنين إلى بحيرة مالحة، تصل نسبة ملوحة مياهها حوالي 33% أي أكثر بعشرة أضعاف من النسبة المعروفة في البحار وهي حوالي 3%. مما أعطى الدول المشاطئة للبحر الميت مورداً طبيعاً من الأملاح التي تستغل في صناعة البوتاس والبرومين وغيرها، كما أن لإنخفاض المنطقة عن سطح البحر (423) متر تحت منسوب سطح البحر، سببا في زيادة الضغط الجوي، وزيادة نسبة الأوكسجين في الهواء بحيث تساعد هذه الظروف على الشفاء من العديد من الأمراض الجلدية والتنفسية. وتساعد طبيعة المنطقة المحاطة بالتلال الطبيعية على الإسترخاء للتمتع بإقامة هادئة ينشدها الزوار من جميع مناطق العالم.
وقد فتحت هذه المعطيات شهية العاملين في القطاعين الحكومي والخاص لإستثمارها إقتصادياً، فإنشئت الفنادق الفخمة، وقصور المؤتمرات بحيث أصبحت مقصداً لسياحة الإستجمام والمؤتمرات. إن المستثمر ذكي وحريص على كل قرش يرصده للإستثمار، لإسترداده في فترة مُجدية إقتصادياً. ومن شأن الدولة أن توفر كل سبل الطمأنينة لهؤلاء، لكي لا يترددوا في ضخ الأموال والشروع بالبناء وتشغيل نسبة من القوى العاملة في القطاع السياحي، والقطاعات المساندة.
وقد قمنا في المنتدى الأردني للتخطيط بعقد ندوة متخصصة عن منطقة البحر الميت التنموية، وإستضفنا رئيس وأعضاء من شركة تطوير البحر الميت، التي أسست في العام 2009 والذين قاموا بدورهم بشرح فكرة المخطط الشمولي (مخطط ساساكي 2011) الذي يرتكز لفكرة العِقد Necklace حيث قسّمت المساحات الشاطئية الى مناطق فيها فعاليات متنوعة Activity Nodes ومثال ذلك منطقة الكورنيش الواقعة بالقرب من سويمة حيث توفر المنطقة ممشى بحري للتنزه يحاذيه متنزه بيئي يهدف للمحافظة على التنوع الحيوي، وستكون هذه المنطقة مفتوحة للمواطنين للتنزه وقضاء أوقات من المرح والاسترخاء برفقه عائلاتهم على مدار السنة.
http://www.jordanian-planning-forum.com/news8.htm
ولم ينقص منظمي الندوة النباهة لإستضافة الدكتورنجيب أبوكركي/ أستاذ الجيوفيزياء وعلم الزلازل في الجامعة الأردنية، للتعليق على المخطط الشمولي من الناحية الجيولوجية كون المنطقة ذات خصوصية لوقوعها في أخفض بقعة على وجه الكرة الأرضية، وتعاني من آثار الإنخفاض المستمر لمنسوب مياه البحرالميت. وقدم الدكتور أبو كركي عرضا موجزا عن الدراسات التي إجراها مع فريق متخصص في هذه المنطقة وبين أن هناك شواهد على ظهور ما يعرف بحفر الإنهدام Sinkholes منذ مدة كان أكثرها في منطقة غور حديثة وبدات بالازدياد في مناطق مختلفة أدت في العام 1999 لإنهيار سد البوتاس رقم (19) وضياع (55) مليون مترمكعب من المياه وتكبدت الشركة مبالغ طائلة جراء هذا الأمر. وقد بين الدكتور أبو كركي مستعينا بالصور الموثقة بنظام المعلومات الجغرافي GIS وبالتسلسل التاريخي بأن الظاهرة في إزدياد مما يتوجب الانتباه لها وأخذها بعين الإعتبار. وكالعادة، إنفض الجمع ولم تتخذ الشركة خطوات عملية لمراقبة هذه الظاهرة بوسائل علمية حديثة، مثل نظام الإستشعار عن قرب بالمجسّات، وعن بعد بواسطة الأقمار الإصطناعية.
لقد كان لمنطقة الأغوار والبحر الميت حساسية خاصة، كونها على تماس مباشر مع الجانب الإسرائيلي، وقد قلّت القيود على الوصول إلى المنطقة بعد إتفاقية السلام مع إسرئيل، مما أنعش الإستثمار السياحي.
إن مساعي الدولة لخلق سلسلة من المناطق أو الأحياء الاستثمارية على الشاطيء الشرقي للبحر الميت، وعددها 12 حي، ذات مراكز حيوية بمساحات تتناسب وحجم المنطقة التي تتوسطها وترتبط ببعضها البعض بواسطة شرايين الحركة الرئيسية، هذه المساعي مهددة بتنامي ظهور الحفر الخسفية مما قد يضيع على المجتمع، مليارات الدنانير التي تم ضخها بالمنطقة.
صحيح أن للإنسان قدرة محدودة على التحكم بالكوارث الطبيعية، ولكن هذه الظاهرة ناتجة عن تردي الأوضاع بفعل إختلال التوازن الطبيعي المتأتي من تدخل الإنسان في قوانين الطبيعة مما أدى للتغير المناخي وإرتفاع حرارة الأرض وزيادة التبخر. وقد أصبح من المعروف أن السبب الرئيسي لهذه الظاهرة مرده الى الإنخفاض المستمر في منسوب البحر الميت، والذي يوثر على الأراضي المحيطة، حيث تعمل المياه الحلوة الموجودة في المناطق المحيطة (حوض مياه الزارة مثلا) على إذابة الأملاح الموجودة في التربة، فتفرَغ الكتلة الترابية فتحدث الفجوات، مما يؤدي إلى إنخساف التربة على شكل دوائر كتلك الواضحة في الصورة الجوية، أو على شكل تشققات أرضية، أمكن على المختصين تحديد مسارها الخطي في أماكن كثيرة (مثال منطقة إنهيار مصنع النميرة لمنتجات البحر الميت).
ما نعيد الكرّة للتأكيد عليه، هو أن ما لا تراه العين، تراه الأجهزة، ولهذا أبدينا نحن في المنتدى الأردني للتخطيط رغبتنا بالمشاركة ضمن فريق بحثي دولى Isteria Project يقوده البرفيسور أبو كركي إلى وكالة الفضاء الأوروبية European Space Agency للحصول على تمويل لإنشاء نظام إنذار مبكر ولدراسة ظاهرة حفر الإنخساف وإنقاذ البحر الميت كونه إرث عالمي عز نظيره.
مسعانا هذا باللجوء الى المنظمات الدولية، هو خطوة إضافية بجهود فردية من علماء أردنيين، بعد ما فقدنا الأمل في الحصول حتى على مقر للمنتدى، أو حتى وقفة تضامن من الحكومة، أو حتى من القطاع الخاص، لأننا نرى ما هو قادم، لا لإننا منجّمين سَحرة، بل لأننا نقرأ المستقبل بناءً على ظواهر الحاضر.
إن محاولات البعض لإحداث تنمية هناك وهناك، تبقى مبتورة بدون إستراتيجية عمرانية وطنية، تأخذ بالحسبان المشاريع الكبرى التي تشكل الحاضنة المكانية للتنمية، فمشروع قناة البحرين، هو موضوع حياة أو موت بالنسبة للأردن، فتنفيذه سيوقف شواطيء البحر الميت من الإنخساف، وسيوفر إحتياجات المملكة من مياه الشرب، وسيستَغّل فائض التحلية لرفع منسوب مياه البحر الميت إلى ما كانت عليه، ومنعه من الإختفاء. كما أن المنطقة الواقعة ما بين العقبة ومنطقة اللسان ستعمل كمحور تنمية Development Corridor يتخللها بحيرات لتربية الأسماك ومزارع حقلية، بما ينقل الأردن إلى مصاف الدول المكتفية ذاتيا بالطاقة المتولدة من إنتاج الكهرباء باستغلال فارق المنسوب، وبالمياه.
إن البديل عن إعداد الإستراتيجية العمرانية الوطنية، هو المضي قدما في سياسة إطفاء الحرائق بأموال دافعي الضرائب وأموال المنحة الخليحية … كلام كثيراً ما نادينا به، ولا حياة لمن تنادي.